تعتبر الهوية مظلة جامعة تحدد الطابع العام للشعوب بحيث تصنف كل مجتمع بطابع يميزه عن بقية المجتمعات وذلك من خلال عدة مرتكزات كالدين والثقافة والتاريخ والعادات والتقاليد إلا أن اللغة هي الوعاء الجامع والعامل المشترك بين كل تلك المرتكزات، فحين تحدد الهوية عليك أن تحدد اللغة التي من خلالها تطبع على الهوية طابعها الذي يميزها عن بقية الهويات.
ولعل من أكبر الأخطاء التي قد تعصف بالشعوب هو التلاعب بمسألة الهوية اللغوية وعدم الحسم في تبنيها بصوت مرتفع وبشكل قاطع وحاسم وتأجيل الحسم فيها إلى أمد يصبح من الصعب معه فعل ذلك أو أن تستحيل الهوية اللغوية إلى فوضى عارمة بحيث يتيه المرء في معرفة إلى أي طائفة ثقافية ينتمي بلده.
ولقد استوقفني شاعر عربي في ندوة شارك معه فيها مثقفون موريتانيون حين عبر عن انزعاجه من كلام الوفد الموريتاني باللغة الفرنسية مع أن الانطباع السائد الذي يحرص الشعب الموريتاني على ترسيخه في المشرق العربي أننا بلاد المليون شاعر وبلاد المنارة والرباط وهي عناوين ثقافية صارخة في التعبير عن الهوية العربية، فكيف رغم كل ذلك يسهل على مثقفينا أن يتباهوا بإتقانهم للغة أجنبية.
إن أكثر المقاومات فاعلية في وجه الاستعمار على هذه البلاد كانت المقاومة الثقافية حين أبت الأمة الموريتانية استقبال لغة المستعمر حتى ولو كانت هي الطريق الوحيد حينها للعلم واكتساب ثقافة العصر، وقد كانت عاملا مهما في الحفاظ على الهوية العربية والاسلامية في ظل سيطرة الفرنسي على كافة أرجاء البلاد.
نعم لقد ورثت دولة الاستقلال إدارة فرنسية بامتياز وورثت معها هيكلا مؤسسيا قائما على المنهاج الفرنسي في شتى المجالات من تعليم وصحةوإدارة بشقيها المدني والعسكري. وصحيح أيضا أن دولة الاستقلال غيرت من المنهاج التعليمي القائم حينها واستبدلته بالمنهاج العربي.
إلا أن الحسم في الهوية اللغوية لم يكن واضحا ولا حاسما، فالتغيير حدث على مستوى الوعاء الذي من خلال نتلقى تعليمنا إلا أن الميدان الإداري ظل وبات وما زال متشبثا باللغة الفرنسية في القوانين والمراسلات ولغة التواصل.
وتتجلى ملامح الانفصام في هويتنا اللغوية أكثر ما تتجلى في الميدان الإداري والذي يعيش أزمة هوية مثيرة للشفقة فعلى الرغم من أن الدستور الموريتاني صرح أن اللغة الرسمية للدولة هي اللغة العربية إلا أن جميع ما يصدر من وثائق ومن تقارير ومراسلات إنما تعتبر اللغة الفرنسية أصله ثم تتم ترجمته بعد ذلك إلى العربية *لغة الدستور الأولى* بيد أن العكس كان ينبغي أن يكون صحيحا.
وهنا يبرز التساؤل المشروع، كيف نشأ هذا البون الشاسع بين ما ينادي به الدستور وبين التطبيق والممارسة؟
إن الجواب على السؤال يدفعنا لاستحضار صراع غير مصرح به بين النخبة العربية والنخبة لفرانكفونية أو إن شئت قل بين جيل ما قبل إصلاح النظام التعليمي في الثمانينات وجيل ما بعده.
فليس سرا أن المستويات المعرفية مقارنة بين الجيلين الإداريين لا مكان للمقارنة بينها ففي جيل التأسيس تكاد تنعدم الشهادات الجامعية المتقدمة فإنما هو جيل حمل راية البداية وكانت شهاداته الدراسية في بداياتها أيضا وإن لم تكن معدومة فصحيح أن هناك العديد من الاستثناءات لكن الغالب الأعم أنه جيل متوسط التعليم في حين أن الجيل الشاب والذي تلقى تعليمه بالعربية في ظل ما بعد إصلاح التعليم في الثمانينات يكاد سواده الأعظم أن يكون تحصل على شهادة جامعية على الأقل.
ومنه وبحكم أن الميدان الإداري كان حكرا على جيل الاستقلال فقد فصل هذا الأخير النمط الإداري تفصيلا يضفي على الفرنكفونية قيمة مضافة ففي حين أن اللغة وعاء وليس قيمة معرفية بحد ذاتها إلا أن التشبث بوعاء أجنبي قد يحرم أصحاب المعرفة من اللعب في ميدانهم لأن أرضية الميدان ليست أرضيتهم. فتتعطل المصلحة العمومية بتأخرها عن ركب التنمية حيث تمر السنين وهي تراوح مكانها تجتر بعض النظم والأفكار الإدارية التي حلق عنها العالم منذ ستة عقود. بحجة أن الفرنسية هي الوسيلة التي سنتخاطب بها بيد أن الخطاب في حد ذاته لم يعد ضروريا بقدر ما هو ضروري مسايرة الأمم في المجالات التي نشأت بعد ظهور التكنلوجيا.
ومن المضحك المبكي أن الصراع بين الفئتين نتج على حافته صنف ثالث لا ينتمي لأي من النخبتين يمكن أن نسميه النخبة المتثاقفة وهي نخبة تلقت تعليمها في ظل إصلاح التعليم إلا أنها لا تجيد العربية ولا تتقن الفرنسية لكنها تحرص على ترسيخ لغة المستعمر للتباهي بها وإظهار الألمعية وأشبه ما يمكن أن توصف به أنها بطة عرجاء وهي أسوء النخبتين على الإطلاق.
ولعل الفرصة لم تفت بعد على الحسم في اعتماد الهوية العربية لبلد مسلم عربي لطالما كان يشار إليه بالبنان إذا ذكر العلم الشرعي واللغة العربية.