من حيث كـُـنهه وماهيـّـته ، يجدر ابتداءً التذكير بأن مفهوم الخطاب السياسي أعمق وأوسع مما قد يتخيله البعض حين يحصرونه أحيانا ً في دقةِ الصياغة البلاغية للبيانات وحبكةِ الخرجات الإعلامية أو في مجرد فن اختيار الكلمات والتراكيب اللغوية المنتقاة بعناية ،
صحيح أنه في بعض تجلياته يرتبط مفهوم الخطاب السياسي بملكوت البلاغة والإقناع والتعبئة الجماهيرية لكنه فكريا ًوعمليا ًأشمل وأوسع دلالةً بكثير من ذلك حيث يتعلق أيضاً بجملة ضوابط ومهارات حسية ومعنوية مؤهلة لأن تـؤطر وتوجـه بفاعلية قنوات الوصل والاتصال بين الجهة المرسلة والجماهير المستهدفة سبيلا ً إلى توفير ما يضمن كسب المصداقية وبناء الثقة بشكل مستديم.
وبحكم واجب خصوصيته وتميزه ، يمكن اعتبار الخطاب السياسي بمثابة الحمض النووي للجهة السياسية التي تصدره إنْ على مستوى اقتضائه لنقل المميزات الخاصة بتوقيع تلك الجهة وبصمتها الذاتية وإن ْ على مستوى احتوائه على ما تراه الجهة تلك من صميم الأولويات الظرفية.
وعلى الرغم مما يعتريه من تغييرات ولتكييفات مرحلية، لا بد دوماً لكل خطاب سياسي ذي بال أن يتميز بقيم و مبادئ ثابتة توفر إطارا ً مفاهيميا لتــنـزُّلاته العملية ونبراسا معنويا ً لجهود التوجيه والتأثير والمقبولية المجتمعية التي يتوق إلى تعزيز مشروعيّتها وتوسيع دائرة استساغتها لدى الجماهير المستهدفه.
و عند غياب تلك المميزات أو في حال تمييع البصمات الخطابية، يختلط الحابل بالنابل وينسخ الكل خطابه من خطابات الآخرين تقليدا أوقطعاً ولصقًا فتضيع دلالات الكلمات وتغيض منابع مصداقية البيانات .
ثم إنه من حيث تعلقه العضوي بالحياة وللحياة في تقلباتها وتحدياتها المتجددة يحتاج الخطاب السياسي ، لكل نظام حاكم ولكل حزب جاد ، الكثير من الجهود التجديدية المستمرة و المستنيرة لضبط بوصلته على المسار الصحيح.
وإذا كانت الأحزاب السياسية هي الأطر المؤسسية الوحيدة المخولة قانونياً لممارسة الفعل السياسي برأس مرفوعة ووجه مكشوف، فإنه بقدر كفاءتها وفاعليتها ميدانيا وبقدر قدرتها على تجديد خطابها ليتلاءم مع متطلبات العصر وتطلعات الجماهير في آن واحد ، بقدر ما ترتسم أمامها معالم النجاح بوضوح ليس فقط لها هي في ذاتها -بالمعنى الميكرو -وإنما أيضا نجاحها -بالمعنى الماكرو -أي على مستوى تقوية وتأويج الدور السياسي للجبهة الداخلية الوطنية وتدعيم حصانتها من كل محتملات الاختراق الأجنبي وبالتالي ابتعادها عن الخضوع لأجندات خارجية على حساب المصالح العليا للوطن.
يتبع …وفي الجزء الثاني سنعرض بشيء من التفصيل إن شاء الله لمجمل أنواع الخطاب السياسي مع مراعاة الدعائم التي تنبني عليها هيكلته البنيوية و فاعليته في التعبئة الجماهيرية.
بقلم محمد بشير ولد الساس
أكاديمي موريتاني مقيم في باريس