في منتصف التسعينيات كان محمد فال ولد عينينا (فَّال)، السفيرُ المقيم لبلادنا في واشنطن، يقدِّم أوراقَ اعتماده كسفير غير مقيم في البرازيل، ضمن مجموعة من السفراء الجدد في العاصمة برازيليا، وخلال وقفة قصيرة له مع الرئيس «فيرناندو أنريك كاردوسو» سأله: يا دكتور، أنت قادم من الولايات المتحدة، وحسب علمي فإنك اسم مشهور في الأوساط الأكاديمية هناك، قبل أن تصبح سفيراً لبلادك، لذا أحببت أن أعرف منك كيف ينظر الأميركيون إلى البرازيل؟ كان السؤال مفاجئاً للدبلوماسي الموريتاني، لكن «فال» رد بنباهته المعهودة: يتداول المفكرون الاستراتيجيون الأميركيون مقولةً مفادها أن «البرازيل ستظل تنشد التقدم وتسعى إليه دائماً». وكان هناك شطر مكمل لهذه المقولة، نصه: «.. لكنها لن تبلغه ولن تحققه»، إلا أن «فال»، لِما عُرف عنه من لباقة وحنكة، لم يشأ إيراد ذلك الشطر المتمم. فتفاجأ الرئيس بالمقولة وبالصورة النمطية التي تختزنها عن بلاده، والتي اتضح من ردة فعله أنها تَطرُق مسامعه لأول مرة، فازداد اهتمامه بـ«فال»، واقترب منه مستفهماً: هل لديك وقت لنتغدى معاً اليوم قبل عودتك إلى واشنطن؟ فرد فال: بكل سرور.
وعلى مائدة الغداء دار نقاش طويل حول المقولة الأميركية المذكورة آنفاً، بين فال والرئيس البرازيلي ووزرائه الحاضرين. ثم وجه الرئيس «كاردوسو» سؤالا لضيفه الموريتاني: وماذا تعني لك شخصياً البرازيل؟ فقال «فال»: بالنسبة لي تعني البرازيل أشياء مهمة وكثيرة، يحضرني منها حالياً الآتي: حين كنت مراهقاً شغوفاً بكرة القدم، كنت مولعاً باللاعبين البرازيليين مثل بيلييه وزيكو وجيلما سانتاوس، وكانت برازيليا بالنسبة لنا واحدة من أكبر عواصم كرة القدم في العالم. أما في شبابي فقد أصبحت البرازيل تعني لي كذلك شيئاً ذا أهمية خاصة في تاريخنا الوطني. فقد كانت أهم التغيرات والتفاعلات في تاريخ بلادنا تتم على محور الحركة «جنوب -شمال»؛ فمن الشمال جاء الإسلام واللغة العربية، ونحو الشمال انتقلت الدولة المرابطية لتؤسس مراكش كعاصمة لها. وعلى مدى قرون كان النشاط التجاري متمثلا في تجارة القوافل الصحراوية يجري عبر محور الشمال والجنوب، وحتى التجارة الأطلسية كانت تتم هي أيضاً وفق المحور ذاته تقريباً، وكانت معظم قوافل الحجيج تسلك المحور ذاته شمالا. وحين دخل الاستعمار الفرنسي في بداية القرن العشرين دخل من الجنوب متمدداً باتجاه الشمال، ليمثل دخوله نقطة تحول وبداية تغيير كولونيالي «عنيف» في حياة البلاد. وبعد خروج الاستعمار ونيلنا الاستقلال السياسي عام 1960 بقي استقلالنا منقوصاً لأسباب كان أهمها انعدام التواصل الكافي بين غرب البلاد وشرقها، وكان الانشغال الأكبر لدينا في ذلك الوقت هو التغلب على هذا التحدي الذي فرضته وعورة التضاريس الشاسعة وانعدام الإمكانيات المالية واللوجستية الكافية، إلى أن تولّت شركة «ميندز» البرازيلية في منتصف السبعينيات بناء طريق «الأمل»، فكان "شريان حياة" جديد، بل أهم وأضخم مشروع في تاريخ بلادنا، إذ مثّل بطوله الممتد على مسافة 1100 أول وسيلة ربط لتعميق وتوسيع التفاعلات بشكل غير مسبوق على المحور «شرق -غرب»، بعد أن كانت كل تفاعلاتنا تقريباً تجري على المحور «شمال -جنوب»..
لذا ما أن يَذكر الموريتاني المعاصر ذلك المشروع البنيوي الطرقي الضخم حتى يذكر على الفور اسم البرازيل واسم شركة «ميندز» البرازيلية التي كان لعملها الرائع كبير الأثر في حياتنا.