كتاب البادية: ملامح أخرى

طالعت باهتمام بالغ الاضاءات الجميلة التي قدم الدكتوران الجليلان، الموقران، الدكتور اسلكو ولد أحمد إزيد بيه والدكتور محمد ولد أحظانا، حول كتاب البادية، للعلامة الشيخ محمد المامي بن البخاري، رحمهم الله تعالى، المتوفى يوم 8/10/1865 عند جبل أيگ.

ولا شك انهما افادا واجادا، فلهما جزيل الشكر، فقد كان لهما السبق في تقديم هذا الكتاب بطريقة غير نمطية، وهو الامر الذي تتطلبه اليوم القراءات المعاصرة في كتبنا القديمة، فالكتب ترتفع قيمتها العلمية بالدراسةالحصيفة، التي تعتمد المناهج العلمية المعروفة.

وتطفلا على موائد العلم، التي يسعد جليسها، اردت ان اضرب في ملامح جديدة من عباب بحر هذا الكتاب، الذي اودعه الشيخ – الشيخ في هذه الدراسة تعني المؤلف- الكثير من اليواقيت والمراجين.

الملامح التنظيمية والاجتماعية، والتاريخية، في كتاب البادية:

شكلت  احكام النوازل والفتاوي الفقهية، مرتعا خصبا، للباحثين في مجالات فقه الدولة، والواقع الاجتماعي، والتاريخ والاقتصاد، فقد تفطن  الباحثون، الى ما يمكن ان تساعدهم به، هذه الوثائق الفقهية، التي اعدت أصلا بغرض ابراز حكم الشرع الإسلامي في أمر ما، ولكنها فيما بين ثناياها غنية بمعلومات عامة وخاصة عن حياة المجتمع، وما يشغله من أمور، و مسار تطوره وتفاعله في مرحلة معينة من التاريخ، في بقعة جغرافية محددة، وللدليل على أهمية ما تفيد به دراسة النوازل، علم الاجتماع، يقول الدكتور محمد المختار ولد السعد، في كتابه( الفتاوى والتاريخ): ( لقد استغل روجي ادريس ، نوازل البرزلي في اطروحته، للكشف عن الواقع الاجتماعي، في افريقية الزيرية وحلل بعض هذه الفتاوى في عمل مستقل، بينما اعتمد في مقاله المكرس للزواج في الغرب الإسلامي، على 245 فتوى منتقاة من فتاوى الونشريسي، تغطي الفترة الممتدة من القرن التاسع ميلادي الى القرن 15 ميلادي، وتشمل افريقية و المغربين الأوسط والاقصى والاندلس، ابرز من خلال تحليلها جدوائية استغلال النصوص الفقهية في الدراسات الاجتماعية.) 

ولابد هنا من التوقف عند البادية، كمجال جغرافي، ولكنها أيضا مجال تنظيمي واجتماعي وتاريخي، و ارتباط مجتمعات البيظان بها، رغم اكراهاتها الكثيرة؛ الفوضى وانعدام الامن، تفشي الجهل، صعوبة العيش،الجفاف وقلة الامطار...

ربما تكون اثارة هذه الملامح مفيدة في فهم تلك السياقات و دلالاتها.

 

أ. الملمح التنظيمي:

نعني بهذا الملمح، فكر الشيخ بإقامة نظام سياسي، يحل محل الفوضى التي يعبر عنها أحيانا بالسيبه، ولا شك ان الشيخ كانت له رؤيته، للواقع الذي يرى ان ضبطه ولو مرحليا لا يتم إلا بوجود امير قوي (يمنع المواثبة),

اهتم الشيخ بقيام الدولة، ونصب الامام، وذكر ذلك في كثير من اعماله، حتى انه نظم في قصيدته زهر الرياض اللازوردية في الاحكام الماوردية، الأحكام السلطانية للإمام أبي الحسن علي بن محمد الماوردي( وهو فقيه شافعي، عراقي، توفي ببغداد سنة 1085م) ، وتقع قصيدة زهر الرياض -هذه- في 236 بيت، من بحر الطويل، وكان يدرسها في محظرته.

هذه القصيدة تختصر كتاب الماوردي الضخم، اختصارا شديدا، فربما يكون الشيخ أراد ان يُدخل هذا العلم الى المنطقة، لأن اهل هذه المنطقة و معهم المالكية عموما لم يؤلفوا في فقه الدولة، بل كان اهل العراق اكثر اهتماما بهذا العلم، ربما بسبب انتقال الخلافة الى تلك الامصار، منذو الخليفة الراشدي الأخير علي بن ابي طالب، الذي انتقل عن المدينة حتى دفن بالعراق سنة 39 هج.  

لا شك ان الروح العامة لكتاب البادية – الذي من الراجح انه انتهى من تأليفه قبل نهاية عقده الرابع - تتحدث عن مناخ الفوضى السائد، الذي يقابله بالدعوة إلى نصب الامام، وفي هذا الإطار سنحاول -بسرعة - اقتطاف بعض الأمثلة التي وردت في الكتاب عن محاولات تسعى لنصب الامام، درسالشيخ بعضها، وعايش بعضها وتأثر به:

ذكر الشيخ حرب شر ببه، بأنها كانت من اجل نصب الامام، قال في التلميةالرابعة من كتاب البادية: (فإن قلت احكام الامام تمكن اليوم، فهلا نصب؟ 

قلنا: ألم تسمع بشر "ببه" فإنها ما وقعت إلا لنصب الإمام، وخالف بارك الله في أمرها، فبان من امرها ما بان، والوسيلة إذا لم يترتب عليها مقصدها لم تشرع.) 

نجد الشيخ أيضا في خاتمة قصيدة " على من ساد " التي تدعو الى نصب الامام، بصورة واضحة، بل قاسية أحيانا، يعود الى شر "ببه" بالقول:

ولست معارضا إنذار جدي .... من اللذ كان خيفة ان يكونا

لأمر باطني حاد عنه       ........ من انكره و كل فائزونا

كما نجده يعود الى حرب "شر ببه" أيضا، في جوابه على القصيدة الفوتية، الموجهة من الحاج عمر الفوتي لعلماء بلاد شنقيط، يطلب منهم النصرة:

وقد طلبوا نصب الامام ب "شفه" ..... فضاع الزوايا واستطال الروامح

لما فقدوا من شرط اهل امامة ....... واهل اختيار، أو قضى المنع مانح

فقام بحمل العلم من صلحوا له ......  وقد خرجت اسد لحرب صوالح 

وشفه بما بحساب الجمل: 1085هج، الموافق لسنة 1674، وهي سنة وفاة الامام ناصر الدين في المعركة الثانية من حرب شر "ببه" ضد الأمير هدي بن احمد بن دامان، رحمهم الله تعالى جميعا.

اوردنا هذين النصين الشعرين اللاحقين على ما ورد في كتاب البادية، عن موضوع حرب "شر ببه" الذي يقول الشيخ انه كان من اجل نصب الامام، وهي المسألة التي شغلت تفكيره في كتاب البادية، ومن خلال النصوص الثلاثة يمكننا ان نتلمس ثلاث مراحل مر بهما تفكير الشيخ حول مسألة نصب الامام:

- المرحلة الأولى: مرحلة تميزت بالتنظير لقيام الدولة الإسلامية المنشودة، من خلال تشخيص الوضع السياسي الذي تطبعه -في الغالب- الفوضى، والخوف، وقلة الامن، في المنطقة، مع اخذ تجربة حرب شر "ببه" في الحسبان، والنظر الى نتائجها بكثير من التأمل، حيث يورد مثال اعتزال جدهباركل لتلك الحرب، مبررا قراره بأن المراد من تلك الحرب ، الذي هو نصب الامام لم يكن ممكنا ، والوسيلة اذا لم تؤدي الى مقصدها لم تشرع، ومع ذلك كان الشيخ ينتقد الوضع، ويطالب بتغييره، فلم يكن يائسا تماما من نصب الامام، الذي تستقيم به أمور الدين و الدنيا، ولا معتبرا ان ذلك التنصيب غير ممكن إطلاقا، و ربما تكون هذه المرحلة هي التي نظم فيها الاحكام السلطانية.

-المرحلة الثانية: نجد الشيخ يقوم بالدعوة المباشرة، للقيام بنصب الامام، حيث يقول ان ذلك لا يحتاج إلا للعزم ورفض المهانة والخنوع، وهي المرحلة التي تعبر عنها بصدق قصيدة ( على من ساد) .

ويستدرك الشيخ ان هذه الدعوة ليست معارضة لإنكار جده، يعني باركلالذي قال: (باستحالة الدولة المنشودة بالسلاح).

وكان الشيخ يرى في ذلك الوقت ضرورة قيام الدولة، الذي يبرره بالانتشار الغير مسبوق للفوضى، والازدهار النسبي لمجتمع الزوايا، بحيث يرى انهم لا يحتاجون لتغيير الواقع إلا للتصميم والعزم .

- المرحلة الثالثة: وتمثل العقد الأخير من عمر الشيخ، نجده يشير الى قيام حرب "شر ببه" ، بقوله: " طلبوا" ، ذاكرا مخلفاتها الوخيمة، في  عودة الى بداية تفكيره المنطلق من قرار جده باركل، الذي كان يرى ان الحرب من اجل نصب الامام، في هذه المنطقة، لا يمكن ان يؤدي إلا الى مخرجات اسوء مما قبلها.

وأشار الشيخ الى الوضعية التي نتجت عن حرب "شر ببه"، التي منها تخصص الزوايا في العلم والعرب بأمور الحرب، ولا شك انه في هذه المرحلة، قد وصل الى استحالة قيام الدولة بالسلاح في هذه المنطقة، التي عادة تتحول فيها الحرب ضد الكفار الوثنيين الي حرب بين المسلمين، ويكون ذلك بداية انتهاء تلك الدول، فقد لقي زعماء الدول المتعاقبة – خاصة المامي عبد القادر كان والحاج عمر الفوتي - نفس مصير الامام ناصر الدين، فقد قتل كل واحد منهم في حرب بين المسلمين.

تؤكد هذا التحقيب لنظرية الشيخ في قيام الدولة، وما توصل اليه من خلاصات، الصورة التي يقدم لنا في خاتمة نظمه لمختصر الشيخ خليل، عن تجربة مروره بالإمارات المغفرية القائمة على تخوم دولة فوتا تورو بقوله:

وشغلت مراحل التسيار ..... في النظم عن مطارح الأنظار

مع شواغل الزمان الاغبر ....... بين السوادين وبين مغفر 

هذه الخاتمة نظمها الشيخ قبل وفاته بست سنوات تقريبا، فأودعها بعض خلاصة تجاربه، ويمكننا هنا ان نقرأ تأسفه على صعوبة الزمان، بين " السوادين" وهو لفظ عام يحيل الى منطقة حغرافية معينة، بما يعنيه ذلك من دلالات، ومغفر وهي الاسرة الاميرية التي تنحدر منها الاسر التي تحكمامارات: الترارزة، لبراكنة، آدرار، أولاد امبارك. 

 

 

2-الملمح الاجتماعي:

لا جدال في ان عالم الاجتماع يسعى الى تشخيص الظواهر الاجتماعية، كما يسعى المجتهد الى تشخيص النوازل الفقيهة، و كلاهما يهدف لحل مشكل مطروح.

فكما تطرح على الفقيه النوازل، للبحث لها عن حكم الشرع فيها، فإن عالم الاجتماع قد يساعد في دراستها ليجد لها علاجا يسعى لاستئصالها نهائيا من المجتمع. 

ومن الجدير بالذكر أن كتاب البادية في الأصل، يهدف الى اتاحة أجوبة فقهية عن النوازل التي تستجد للناس في حياتهم مع الزمن، فهو يسعى إلىتقديم حكم شرعي للمسألة أو الحالة الجديدة، بصورة عامة، مع الأخذ بعين الاعتبار المقاصد الشرعية والمصلحة العامة.

  ومن المعروف ان الامام مالك كان يقول عندما يسال عن نازلة معينة، هل وقع هذا؟ ... دعوه حتى يقع، وفي هذا إشارة الى ان لكل زمن نوازله التي يُترك امرها لعلماء وقتها.

وفي إطار الأهمية الكبيرة التي بدأ يحتلها علم الاجتماع بوصفه آخر العلوم وبالتالي عمود بناء اية نهضة بشرية تقوم على أساس قوي، قوامه الانسان الناضج الواعي، كما حدث في نهضة الغرب في مجالات التنمية والديمقراطية وحقوق الانسان، وبما أن البناء الاجتماعي تراكمي، كان من المفيد القاء نظرة ولو سريعة على كتاب البادية من الناحية الاجتماعية. 

ان ما يعبر عنه الفقهاء والاصوليون بالنازلة، يمكن لعلماء الاجتماع أن يجدوا فيه ما يمكن اعتباره أيضا ظواهر اجتماعية، تساعد في دراسة المجتمع من الناحية الاجتماعية، من تعاريف الظاهرة الاجتماعية في علم الاجتماع: (أنها مجموعة من النظم والقيم الاجتماعية والقواعد و العادات والتقاليد و الاتجاهات بشكل عام، التي يقوم باتباعها و ممارستها الافراد في المجتمع الواحد، و تعتبر الظواهر الاجتماعية نوعا من أنواع السلوك المجتمعي تجاه امر او قضية ما، حيث يصبح هذا السلوك سائدا كالعرف، و منها ما يترك اثرا إيجابيا كإكرام الضيف، وعيادة المريض، و مساعدة المحتاج، ومنها ما يترك اثرا سلبيا كالتدخين والسرقة والتسول.)  

ومن المعروف ان كتاب البادية قدم أجوبة فقهية للنوازل التي كانت مطروحة على مجتمعه بإلحاح.

و من جانب آخر، يمكن لعلماء الاجتماع الاستفادة من هذا الملمح الاجتماعي في كتاب البادية، فمثلا من خلال دراستنا لظاهرة تكلم الشيخ عنها كنازلة في زمنه، وقدم لها جوابا فقهيا شافيا في مصلحة الناس، ومتماشيا مع ظروفهم، ولكنهم ما زالوا حتى اليوم متمسكين بتلك العادة، رغم تبدل احوالهم، فلا شك اننا عن طريق دراسة تلك النازلة (الظاهرة) اجتماعيا، وتبين اضرارها، وخلق بدائل لها يمكننا ان نتخلص منها.

ومن المعروف وكما يقول الشيخ ان هدف الفقيه ان يحمي الناس من تبعات أعمالهم في الدار الآخرة، مع العلم انه يعلم ان ما يقومون به مضر بهم في هذه الدار الدنيا، في حين يسعى عالم الاجتماع، كغيره من العلوم الحديثة الى صلاح أمور الناس في هذه الحياة الدنيا، وليس في هذا تناقض فالفقيه يعمل تحت طائلة الضرورة القصوى، في التعامل مع أمر يجري به العمل، ولا بد فيه من علاج سريع، في حين يكمل عالم الاجتماع عمل الفقيه، من خلال البحث عن علاج نهائي ولو على المدى الطويل، ومن هنا فعمل الاثنين متكامل.

لقد كانت ظاهرة التدخين مثلا منتشرة في مجتمعنا، وكان الشيخ من العلماء الذين سلكوا لها مسلك التحليل، معتبرا إياها تدخل في باب بعض العادات التي لا يمكن للمجتمع التخلص منها، وبالتالي فمن الأفضل البحث لها عن شبهة، تخرجها من دائرة الحرام، لأن بعض المدمنين عليها، لا يمكنهم تركها، وهذا -في نظر الشيخ -دور العالم؛ أن يفتح امام المسلم أبواب النجاة.

وفي السنوات الأخيرة عندما تمت دراستها كظاهرة اجتماعية، تبين من خلال التشخيص، العلاج الذي يمكنه ان يحد من انتشار الظاهرة، الذي يعتمد على نبذها كسلوك، فبعد ان كانت في زمن الشيخ، رمزا للفتوة أصبحت رمزا للجهل والتخلف، فبدأنا نرى تراجعها، في مجتمعنا والعالم اجمع.

 

 

3-الملمح التاريخي:

ينتشر ذكر الاحداث التاريخية بين ثنايا الكتاب، على شكل إشارات عابرة ولكنها مفيدة للباحثين في التاريخ، الذين يجمعون أجزاء الصورة أينما وجدوها.

1-- ذكر الشيخُ دولة الائمة في فوتا تورو، التي عاد منها في حدود 1813، حيث زار إقليم ديمار، ولم تسعفنا المصادر هل تجازوه الى الأقاليم الأخرى، الشيء الوحيد الذي نقل لنا الشيخ، هو كيف ٍرأى اليمان بوبكر يقيم الحدود في "جولمة"، وهذا الامام أثار جدلا عند الباحثين، حيث اعتبر بعضهم، انه يقصد به المام لامين بال، وهو المامي الثالث للدولة بعد المؤسس الفعلي المامي عبد القادر كان.

 ويبدو أن اليمان بوبكر غير موجود في لائحة الائمة الذين توالوا على حكم هذه الدولة، وقد اوصلهم الباحث محمد سعيد باه، في كتابه: (دولة الأئمة في فوتا تورا) الى 34 اماما.

كما اعتبر باحثون آخرون – وهذا الرأي هو الأكثر وجاهة حتى الآن - أنه امام جولمة، اليمان عبد القادر كان، و جولمة في إقليم ديمار، وهو الإقليم الغربي من فوتا تورو، و من خلال محاولة استيضاح ما قال الشيخ هنا عن اليمان بوبكر، ذهبنا الى البحث في بعض مؤلفاته الأخرى.

يقول الشيخ عن اخذه لقب المامي: (سمي والي بوصيابه المام) وهنا يذكر لنا الشيخ منطقة جديدة وقائدا جديدا، هي بوصيابه وقائدها: المامي، الذي لم يحدد لنا اسمه، مما يعني انه – ربما- يقصد به القائد العام للدولة، بالرغم ان اليمان والمام، كلاهما تصحيف للإمام، كما انه يذكر بوصيابه أيضا كعلم لدولة فوتاتورو، حيث يقول: (نحن قوم بداة ما بين المملكة الإسماعيلية والدولة البوصيابية)

 

ذكر بوصيابه أيضا كإسم لدولة فوتا تورو، حيث يقول: (وإما ألا يتغلب فيكون كأهل الفترة بين الامامين، فلا تمكن إقامة الحد إلا بعد نصبه، إن لم تكن فيهم جماعة لا تخشى معها الفتنة، كأهل بوصيابه وأهل فاس.) التلميةالرابعة.

يرى الشيخ الحاج موسى أحمد كامره في كتابه: (زهور البساتين في تاريخ السوادين)، أن عاصمة دولة الائمة كانت تنتقل كل مرة الى مقر الحاكم الجديد، الذي تم انتخابه من بين العلماء لقيادة الدولة. 

- وبالرغم من اعجاب الشيخ باليمان بوبكر، الذي هو والي إقليم ديمار، إلا أنه لم يأخذ لقبه، بل اختار لقب "المامي"، الذي قال أنه لقب والي بوصيابه.

انطلاقا مما سبق، فهل يمكننا اعتبار ان: 

-بوصيابه هي مقر قيادة دولة الائمة في تلك الفترة.

- القائد العام للدولة يأخذ لقب المامي، في حين يأخذ زعماء الأقاليم لقب أليمان.

أدرك جيدا ان الخروج بمثل هذه الاستنتاجات، يتطلب الكثير من البحث، ولكن يمكن تقديمها كفرضيات علها تساهم في اكتمال الصورة حول تاريخ دولة الائمة، الذي مازال يتطلب الكثير من جهود البحث. 

ومن الجدير بالذكر، ان رحلة الشيخ الى دولة الائمة في فوتا تورو، كان قد سبقه إليها، العلامة النابغة الغلاوي، المتوفى سنة 1829، حيث زار دولة الائمة في حياة اميرها القوي عبد القادر كان، المتوفى سنة 1806.

وقد كان العلامة النابغة الغلاوي، مقتفيا اثر شيخه العلامة احمد بن محمد العاقل الديماني الابهمي، المتوفى سنة 1828، الذي سبقه الى مثل هذه الرحلة، حيث قضى اكثر من نصف عقد من الزمن، في منطقة فوتا جالون الإسلامية، صحب خلالها العالم المتضلع ألفا ابراهيما، الذي كان يقود الدولة الإسلامية في فوتا جالو، التي تعرف بدولة الالماميين، وقد عاد العلامة احمد بن محمد العاقل، من تلك المنطقة سنة 1794. 

وقد أشاد الشيخ بالعالمين، احمد بن العاقل الذي وصفه بعلامة المنكب البرزخي – وهو اسم أطلقه الشيخ على هذه البلاد- والعالم النابغة الغلاويالذي أعجب الشيخ به كثيرا، حيث اختصر نظمه المعروف ب: بو اطليحية، وهو نظم من 314بيتا، في المعتمد من الكتب والفتوى على مذهب المالكية.

 

2—ذكر الشيخُ أيضا الامام أحمد لبو، مع اليمان بوبكر، بوصفهما زعيمين لا تخشى معهما الفتنة، وهذا يعني حسب قاموس الشيخ، أنهما يقيمان دولا، بالشكل الذي يدعو له الشيخ.

الامام احمد لبو، المتوفى سنة 1845، هو قائد دولة ماسينا، يقول عنها الباحث الحسين ولد محنض في كتابه: ( تاريخ موريتانيا الجديث): ( إمارة ماسينا هي إمارة إسلامية فلانية قامت في بقعة خصبة تمتد من عقفة نهر النيجر شرقا إلى مشارف سيكو[ بكاف معقودة] غربا، و من مدينة جني جنوبا، الى مدينة تينبكتو  شمالا.) 

3- ذكر الشيخ، العلامةَ محمد المختار بن بلعمش الجكني، وهو عالم جليل، أسس مدينة تيندوف سنة 1853، توفي سنة 1870، قال عنه الشيخ، في التلمية الرابعة، في موضوع تقسيم الحبس: ( ... وذُكرن لي [ يعني الاقوال الثلاثة في تقسيم الحبس] عن المختار بن بونه أنه أخذهن عن ابن الاعمش الجكني عام قدومه عليه سنة "لحميره" بالعجمية.)، مازال تحديد "لحميره "،و تاريخ السنة، غير معروف، حسب علمي ، كما ان العلامة بوميه ولد ابياه، حفظه الله تعالي، والذي اشيد به هنا وبالتحقيق البالغ الأهمية الذي انجزه لكتاب البادية، قال انه لم يجد شيئا عن هذا العام، رغم البحث الكبير الذي قام به.

4-حديثه عن وجوب تعلم الحرف المهمة، يقول في التلمية الثانية المخصصة للعادة: ( و من العادة الواجبة أيضا: الحرف المهمة، كالبارود و الرصاص، إن لم يندفع العدو إلا بهما، أو صاروا حرفة الحرب، كهذا الزمان في بلادنا، و كالنسخ، إذ ما لا يتم الواجب إلا به: واجب.)

يستنتج من هذه الفقرة:

- ازدهار الصناعة التقليدية في ذلك الزمن، بحيث كان الصناع يعملون في مجال صناعة آلات الحرب، ويستدرك الشيخ، ان هذه الصناعات ليست هدفا، وإنما ضرورة لأن العدو لا يندفع إلا بها، ومن الراجح انه - ربما -يقصد بالعدو المستعمر الأوربي الذي بدا يظهر بشكل واضح في المنطقة.

-يقصد بالنسخ، نسخ الكتب وهي حرفة كانت منتشرة في ذلك الزمن في المراكز الإسلامية العربية الكبيرة، ويعرف أصحابها بالخطاطين، فبالرغم ان الطباعة ظهرت في الغرب في منتصف القرن الخامس عشر، إلا ان وصولها الى العرب تأخر كثيرا، حيث طبع اول كتاب في مصر سنة 1820.

 

خاتمة:

يزخر كتاب البادية بكثير من الكنوز المعرفية المفيدة، ويعود تميزه لأسباب عديدة من أهمها موسوعية الشيخ محمد المامي، وعمق تفكيره، وتمكنه من علوم الآلة، وسعة اطلاعه، من ناحية، و شساعة المنطقة الجغرافية التي يعالجها الكتاب من ( اكليميم الى اندر، ومن أركين الى تيمبكتو)من ناحية أخرى.

 

يحيى احمدو 

باحث في سلك الدكتوراه

 

سبت, 09/11/2024 - 18:41