موريتانيا والفرصة التصوفية

لعل أكثر ما ميز الإقليم الموريتاني بمفهومه التاريخي الثقافي الشامل  وليس فقط مفهومه الجغرافي السياسي الحالي  هو  السمو الثقافي والروحي لأهلها بوصفهم علماء دعا ة  ومشايخ ربانيين وأهل صلاح وتمكين  فضلا عن تمكنهم من ناصية اللغة والشعر مما جعلهم أيقونات و قدوات  بل منارات  أينما حلوا وارتحلوا في الحواضر الكبرى للعالم الاسلامي طولا وعرضا.
وهذه الصورة الموغلة في الإيجابية   في المخيال العام الخارجي  والتي طالما  سجلها و تغنى بها -ولا يزال - الكثير من  الأوساط العالمة بل والحاكمة  بدأت تتراجع نتيجة تحسن أداء  الآخر وتراجع ما عندنا بل واضمحلاله بفعل أيدينا   عبر بعض الممارسات السلوكية المدانة والمظاهر المشينة  القاطعة مع تلك الصورة النمطية السامية والمتنورة المتخيلة مبدئيا في كل واحد من أهل هذا البلد  مضافا إلى ذلك نقص الوعي وسوء التقدير  لدى    القائمين  على أمورنا  في كثير من الأوقات الماضية  لتقاعسهم عن العمل على إدامة وصيانة ذلك للإرث العظيم  من العبث المدمر والإهمال المقصر  . 
الأكيد أنه لا يمكن لموريتانيا أن تنافس في العالمين العربي والاسلامي على المكانة المتقدمة في السكان والاقتصاد والتقدم التكنولوجي  والعلمي أو القدرة العسكرية والمالية لكنها يمكن أن تنافس وتكسب على المستويات الدينية  الروحية  والدعوية   والثقافية والفنية .
ويشكل التصوف أحد أهم تلك الروافد للتميز  الموريتاني،؛ ذلك أن الممارسة الدينية التصوفية بكل طرقها ومشاربها  بلغت في هذه البلاد  الغاية في الالتزام السني  والتبتل التعبدي  و في هداية الناس والتأثير في مجرى حياة المجتمعات  وصيرورات أمورها على مختلف الصعد .
فالموريتانيون هم مشايخ أفريقيا قديما وحديثا سواء بالدرجة الأولى أو بالدرجة الثانية ( أعني بشكل مباشر أو غير مباشر).
وحتى اليوم لا زلنا نرى باعتزاز بعض من تجليات نفوذ وتأثير المشايخ الموريتانيين  التجانيين في أفريقيا سواء كانوا ابراهميين أو حافظيين أو حمويين. ولنا أن نفخر بمستوى تأثير  خليفة الحمويين الشيخ محمدو ولد الشيخ حماه الله في مصير دولة   مالي مؤخرا .
كما يبدو  تأثير  القادرية  الفاضلية ملموسا  داخليا وخارجيا ويكفي أن نلاحظ  بذلك الصدد الحدث السنوي الكبير لزيارة  للنمجاط حيث قبر الولي الصالح الشيخ سعدأبيه ولد شيخنا محمد فاضل رحمهما الله.
وعلى الرغم من كون العلامة الشيخ عبدالله بن بيه هو أبرز علماء ومراجع هذا العصر إلا مع ذلك هو شيخ وذو خلفية صوفية شاذلية .  
وفي الشهور الأخيرة رصدنا حدثا مهما وهو انبعاث القادرية الكنتية من جديد   و التي هي طريقة واسعة الانتشار وقديمة التأثير والحضور حيث أعلن عن قيام  اتحاد عام للزوايا القادرية (بالسند الكنتي) على مستوى إفريقيا  وإسناد مقره  ورئاسته  لزاوية الشيخ سيد المختار الكنتي بنواكشوط وفي شخص الشيخ سيدأعمر ولد سيدنا شيخ الزاوية  .وقد ضم هذا الاتحاد حسب لوائحه المنشورة 170زاوية وهيئة من 11دولة افريقية من ضمنها المغرب والجزائر وليبيا ومصر والسودان ونيجيريا والنيجر بوركينا ومالي والسنغال...  وكل تلك أمور لافتة ومهمة.
وقد تابعت  منذ يومين رجع صدى مهم لهذا التطور وهو قيام تنسيقية لزوايا القادرية الكنتية بالقطر الجزائري وتعيين خليفة عام لهذه الطريقة في ذلك البلد الكبير وأحوازه الجوارية  في شخص الشيخ محمد الكنتاوي الرقادي  شيخ زاوية كنتة بآدرار.
ولا أدري إن كانت هذه الخطوة بهذا الشكل وبهذا التوقيت  من قبيل المنافسة  أو على الأقل المزاحمة  الموريتانية على ريادة هذه الطريقة افريقيا .  
وليس ذلك أكيدا على ضوء كون زاوية كنتة  التي شيخها صار الخليفة الجزائري هي   عضو  مؤسس باتحاد الزوايا على مستوى إفريقيا كما قد سارع شيخ  هذا الاتحاد  بالترحيب بالخطوة  وتثمينها وذلك عبر بيان مكتوب.
والمعروف أن التصوف التجاني  بشكل عام هو موضوع رعاية من طرف المملكة المغربية التي بها مرقد الولي الكامل الشيخ  أحمد التجاني بمدينة فاس وإن كان هو  في الأصل مولودا  بعين ماضي بالجزائر مما يخلق تجاذبات ومنافسات الأقران حول أحقية التبني والاستفادة .
ويبقى من يربح موريتانيا إلى جانبه  هو الفائز لأنها قطب الرحى وإن  كانت هي ليست محتاجة لغيرها في لعب دورها كاملا ذاتيا  .
والمهم بالنسبة لي هو أن تولي بلادنا عناية لهذا الرافد  المهم والقوي لقوتنا الناعمة وتأثيرنا الإقليمي وأن نستغل ميزتنا  على هذا الصعيد بالاستثمار في هذا المنحى عبر التنظيم و الرفع من  شأن الطرق الصوفية عموما في البلد والتي هي النمط المعهود للتدين في هذا البلد وجواره أو نكون على الأقل  كما في السنغال  التي هي دولة علمانية بدستورها لكنها تحترم الأنماط المحلية للتدين ومؤسساته. وقد كانت تلك  السياسة التي دشنها الرئيس صنغور المسيحي   حصيفة وموفقة فلم يعرف ذلك البلد أنواع التطرف التي ظهرت بدولة مالي  المجاورة و التي تكاد تودي بها  .
 وبالتأكيد فلو أن لمثل بعض  الدول ذات المؤسسية  المتمرسة والطامحة  (القريبة أو البعيدة)  مثل ما عندنا  أو بعضه من الرصيد على هذا المستوى وبهذا التنوع والثراء  لكانت به قوة جبارة ثقافية وروحية وتوجيهية فالدين هو أكبر مؤثر على الوجدان والروح حاكمة على البدن والثقافة تصنع القناعات وتشكل الرأي العام مما يقود  للتأثير على الأفعال والمواقف.
 

د.أحمد ولد عبد الله

أحد, 27/09/2020 - 17:54