عبد الله محمدُّ يروي قصة تعذيب البعثيين في سجون هيدالة

في كتابه "في ضيافة ملائكة العذاب"، يروي عبد الله ولد محمدُّ فصول التعذيب الذي حاق بعدد من السياسيين في موريتانيا سنة 1982. في تلك السنة، تقرب نظام ولد هيدالة من الحركة الوطنية الديمقراطية، وأقصى واعتقل الكثير من البعثيين في العاصمة نواكشوط وفي المدن الرئيسية للبلاد، ومارس عليهم التعذيب البدني بشكل غير مسبوق في تاريخ البلد. ص. 35. وقد زاد عدد الموقوفين على الألف في الأيام الأولى للعملية.

تحكم موظفو الشرطة في كل شخص، ومارسوا التعذيب على كل من تثبت عليه معارضة السلطة السياسية. 

يرى عبد الله أنه يصعب تصنيف أو قراءة أو حتى فهم التوجهاتالعامة لنظام هيدالة. "السياسات المعلنة لهذا النظام خبط عشواء تجري على غير بصيرة أو هدى، ومن يعش في السياسة، لا تسعفه القوة في القيادة ولذلك تجد النظام يراوح بين مواقف متناقضة، أحيانا الانفتاح وأحيانا الانغلاق، يطبق الشريعة ويتحالف مع العلمانيين والأمميين، يتناغم مع الجزائر ويتفاهم مع المغرب، يتوجه نحو الأصالة ويعتمد اللغة الفرنسية، يحن إلى البداوة ويتطلع إلى العصرنة، يتشدق بالعدالة والديمقراطية ويمارس القمع. جرب نظام هيدالة، كل تلك الأشياء ولم يفلح في نيل ولاء الجماهير وثقة المجتمع الدولي، فاختلق الأزمات مع خصومه السياسيين

واكتظت سجون البلاد بالأبرياء وتعقدت الأوضاع وصار من اللازمتصريف بعض الاحتقان. ولربما اعتقد النظام أنه بمحاكمة البعثيين ونفيهم إلى سجون في المدن الداخلية النائية، سيلتقط بعض أنفاسه، ويستريح وفي هذه أيضا كان واهما." ص. 97.

 

اعتقل عبد الله في شهر مارس سنة 1982. في حدود الساعة الرابعة فجرا، بينما كان يخلد لنوم ثقيل، سمع جلبة أمام المنزل وسيارات تتوقف وأبوابا تغلق وتبادل كلام. وما لبث رجال الشرطة أن تقافزوا من فوق الحائط وصاروا يضربون الباب بقوة. 

- افتح وإلا كسرنا الباب ودخلنا عنوة! لدينا مأمورية بتفتيش البيت!

شرعوا في تكسير الباب. اقتحموا الغرفة. كانوا ملثمين أقوياء البنية يرتدون ملابس مدنية غربية. انقضوا عل عبد الله وبدؤوايفتشونه، وفتشوا الغرف والخزانات، وتعمدوا إثارة الضجيج والفوضى في كل مرافق البيت ومتاعه، ومزقوا الكتب والوثائق.عاثوا في البيت فسادا، جعلوا عاليه سافله وداسوا كل شيء، ولكنهم لم يعثروا على أي شيء .نظر أحدهم إليه وخاطبه قائلا: "لقد أمرنا بإحضارك!". طلبوا منه الخروج معهم. خرج معهم وعند عتبة البيت، عصبوا عينه بقطعة قماش واقتادوه إلى سيارة من نوع بيجو "بريك" ذات صفوف ثلاثة من المقاعد. أضجعوهعلى المقاعد الخلفية وانطلقت السيارة. ص. 47. بعد نحو ربع ساعة، وجد نفسه في مكتب من مكاتب إحدى مفوضياتالشرطة. أميط الغطاء عن عينيه فرأى على الطاولة بندقية وقنبلتين من القنابل الدخانية، فقال في نفسه: «أية شرطة هذه التي تعتقل متهما وتضعه في غرفة بها بندقية وقنابل؟» جردوه من معظم ملابسه، حتى صار شبه عار، وسلبوه كل ما بحوزته. زجوابه في غرفة خشنة رطبة ومظلمة ليس فيها أثاث أو متاع وتركوهوحيدا، فريسة للبعوض وأنواع الحشرات والجوع والظمأ. 

 

فرضوا عليه عزلة تامة عن البشر، حتى جاءه من يعصب عينيهمن جديد ويتوجه به في مركبة شرطة إلى ما سيكون إقامتهالنهائية طيلة أشهر التحقيق والتعذيب: ثكنة الهندسة العسكرية إلى الجنوب من مقاطعة توجنين. بناية الهندسة العسكرية هي عبارة عن حظيرة تمتد على مساحة شاسعة وترابط على بوابتها الوحيدة إلى الشمال مفرزة من القوات المسلحة ويفصلها عن البنايات في الحي وعن طريق توجنين، مئات من الأمتار، لكنها مرتبطة به بطريق غير معبد ينتهي عند مفرزة الحراسة. تتكون البناية من مربعات، كل مربع يضم مجموعة من الزنزانات وحوله حيطان عالية، وكل مربع مستقل عن الآخر ومعزول عنه. كان عبد الله من نزلاء المربع الغربي. وما إن وصل حتى اكتشفت أن به رفاقا آخرين جيء بهم قبله. وسط المربع أو المجمع ذي الشكلالمستطيل غرف متجاورة بل متلاصقة بعضها ببعض من الشرق إلى الغرب وهي غرف في غاية الخشونة، غرف من الإسمنت غير المطلي وأرضياتها خالية من أي فراش سوى من أسرة حديدية قديمة من دون حشايا أو وسائد. الغرف خاوية على عروشها لا يسكنها إلا العناكب والعقارب والخفافيش. ص. 50. أدخلوهم فرادى في تلك الزنزانات الموحشة، وانتزعوا محتويات جيوبهموأجبروهم على خلع ملابسهم وأغلقوا الأبواب. بقي كل واحد منهموحده عاريا في غرفة باردة ليس فيها فراش ولا متاع؛ وكانت الليالي مظلمة وأشعة الشمس لا تدخل الغرف. مضى الوقت بطيئا بلياليه وأيامه وهم على ذلك الحال، يعيشون في عزلة لا يرون النور إلا حين يفتح السجان ليسكب قليلا من الماء في علب بالية قذرة سبق أن أدخلوها كأوان إلى الغرف. ص. 52. "بعد أيام العزلة والعري والجوع، لم تعد الأبدان تقوى إلا على النوم وانتظار المجهول. ويقال إن انتظار العذاب أشد من وقوعه." ص. 53.

 

يقول عبد الله محمدُّ: "هذه القاعدة العسكرية التي يفترض فيها الدفاع عن الوطن والمواطن، حولوها إلى ساحة حتى لا أقول مسلخا لتعذيب وترهيب شباب الوطن من مدنيين، شباب ذنبهم الوحيد أنهم انتموا إلى فكر، مجرد فكر، ودعوا للتغيير واعتبروا أن شعبهم يستأهل الاحترام والتقدير والتقدم والتطور ويستحق أن يعيش في دولة حقيقة تنعم بالحرية والاستقرار والنماء، بدل كيان هزيل مهلهل تتخطفه شراذم من الانتفاعيين الذين أعمتهم جهالتهم وأنانيتهم وشراهتهم وهبوط هممهم، عن النظر إلى أعلى،فاستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير. يدخل عشرات بل ومئات المدنيين إلى قاعدة "جني" وهم معصوبو العيون ويحيط بهم مرافقون من نوع خاص سيكون من بينهم، جلادوهم وهم من أبناء جلدتهم ومواطنيهم". ص. 49. كان عبد الله نزيل الزنزانةالملاصقة للغرفة التي قرر الجلادون تحويلها إلى مكتب للتحقيق والاستجواب والتعذيب بكل أشكاله النفسية والبدنية، وبالتالي كان يعيش تفاصيل المأساة، الواقع منها عليه والواقع على الآخرين، وهذا الوضع الصعب سيجعله مطلعا على كل ما يجري.

 

أماسي التعذيب سهرات لا تبدأ إلا متأخرة، في حدود منتصفالليل، مواكبة بشتى أساليب الترهيب النفسي. ص. 34، وعلى وقع صرخات مثل: "نظفوا المكان من جثة فلان"؛ "هل مات فلان"؛ "القوا بجثمانه خارج المكان"... ص. 34. كان الجلادون يضعون فوق رؤوسهم قلنسوات تشبه المخلاة مخروطية الشكل تغطي

كامل الوجه والرقبة مثقوبة عند العينين والأنف فقط، بحيث يبدو الجلاد وكأنه شيطان له قرن في أعلى رأسه. ص. 34. تضافرت عوامل التضعيف النفسي  (العنف والعري والجوع والتهديد والإيحاء بالخيانة وسوء السكن وانتهاك الأعراض) مع الوجه الآخر للترهيب وهو الإغراء بالوعود البراقة. ص. 35. كان الجلادون خائفين من صرخات السجناء الذين كانوا على وشك الموت. إن بادرة تمرد وتحدي البعثيين، وشجاعتهم وتصميمهمفي مواجهة التعذيب جعلت جلاديهم يخافون. يصف المؤلف في كتابه أنواع التعذيب التي يتعرض لها السجناء:

 

 

 

أنواع التعذيب

 

1. النوع الأول

 

"لحظة دخول المعتقل غرفة التحقيق، يصعقه قائد الفريق بأمواج متلاحقة من الصفعات واللكمات القوية، فلا يترك له الألم فرصة التفكير أو حتى الذهول، فيسقط على الأرض وربما تسقط أسنانه أو يصاب بكسر في الفك أو تطير نظاراته وتنكسر إذا كان يلبسها، أو يصاب بالرعاف ويحس بتمزق الأحشاء. وقد يحدث له كل ذلك أو جله في وقت واحد. وإذا لم يغرق المعتقل في إغماء عميق جراء تلك الموجات المباغتة المتلاحقة من الضرب، فإنه يغرق لا محالة في سيل يصم الآذان من التعنيف اللفظي والشتم والكلام البذيء وعبارات الشماتة والحقد والضغينة والثأر؛ أما إذا بقي على وعيه فقد توجه إليه بعض الأسئلة أو يُخرج عنوة وبعنف من الغرفة إلى الساحة الكبيرة التي تفصل بين المربعات وهي ساحة خالية تقريبا من البناء، توجد في وسطها صومعة للرقابة منضدة قربها حصائر حديدية بعضها فوق بعض، بسمكحوالي متر ونصف، وهي حصائر القضبان الفولاذية التي تستخدم في تسليح السقوف الإسمنتية، يبدو أنها من مخلفات تشييد القاعدة. يحمل المعتقل بعنف ويضجع على قفاه فوق تلك القضبان الصدئة وأسلاكها الناتئة ويقف على كل طرف من أطرافه، رجل شرطة يطأه بنعليه الخشنتين ويأتي الخامس وهو غالبا المفوض المسؤول عن عملية الاعتقال والتحقيق والتعذيب، ويبدأ رفسه على بطنه وصدره وأعضائه الأخرى بما فيها تلك الحساسة. يشعر الضحية بآلام مبرحة، لكن الجلادين يرفعونه فوق رؤوسهم ويخلون بينه وحصير الفولاذ، فيسقط عليه سقطة حرة. وبعد أن يكون الألم قد انتشر في كل بدنه بسبب الصلب وما سبق من ضرب وصفع ولكم وجروح أثخن بها بدنه، وبسبب غرز أسلاك الفولاذ في ظهره والدوس على أطرافه، يفقد الوعي وبالتالي الإحساس بالألم في بدنه الذابل الذي كان أضناه الجوع وأنهكه البرد في الأيام والليالي الماضية حتى أصبح ريشة في مهب الريح، فاقدا الإحساس. ويصحب عملية الصلب هذه سكب المياه الباردة بين الفينة والأخرى على كامل بدنه الضاوي.

 

"هذه الدورة من التعذيب، قد تسفر عن كسور في الأضلاعوجروح ورضوض مختلفة إلا أن أسوأ مخلفاتها وأكثرها إيلاما، هي تلك الجروح والندبات التي تنمو عليها والرضوض التي تتحول بسرعة إما إلى نفاط وإما إلى فقاعات بحجم حبة العنب،وهي شديدة الإيلام. ستترك تلك الفقاعات مدة طويلة من الزمن من دون علاج، نكاية بالضحية وإنزالا للمزيد من الأذى به وسيتبين لاحقا أن الطبيب الوحيد الذي يستطيع علاجها في نواكشوط حينها، هو طبيب إيراني يعمل في العيادة المجمعة يزعم أنه مختص في الأمراض الجلدية. أما علاجه لها فهو علاج موغل في الوحشية والقدم وأشد إيلاما من المرض ذاته، فهو يستخدم كلابا صغيرا كالذي يفك اللوالب الحديدية في الورشات، يغمسه في محلول مطهر ثم يأخذ الندبة أو الفقاعة بين فكيه ويضغط بقوة عليها فتفقس أو تنفجر بما تحويه من قيح وصديد ولشدة ألم هذا العلاج، لا يمكن فقس أكثر من فقاعة واحدة في اليوم، مع العلمأن الجسم الواحد قد يحتوي العشرات منها، ولكم أن تتخيلوا مستوى آلام الضحية قبل العملية وأثناءها وبعدها، إنه أمر يصعب تصوره لأنه يفوق قدرات البشر في الصبر والتحمل." ص.57. 

 

2. النوع الثاني

 

"يؤخذ الضحية على قفاه ويرفع حذو مناكب عدد من الزبانيةويفلت فجأة فيسقط منتشرا على الأرض وأول ما يلامسها مؤخرة رأسه؛ يشعر بارتجاج شديد في دماغه وفي أوصاله الداخلية وقد تكرر العملية أكثر من مرة ولا يشعر الضحية بالعشرات من شظايا المحار التي دخلت رأسه وظهره وإليتيه وعقبيه، إلا بعد أن يعاد إلى غرفته في ساعات الفجر الأخيرة ويحاول الاضطجاع أو إسناد ظهره على الحائط حينها يشعر بوخز الشظايا وبمجرد تحسسها يتألم وتعلق يده بها أو بالدماء التي تنزف من جروحها.بين تلك الدورات من التعذيب وبعدها، يبدأ التحقيق الشفهي معالضحية حيث توجه إليه أسئلة غالبا ما تكون ساذجة ومستفزة وسخيفة مثل سؤال: "هل تعرف من نحن؟" رغم الجو الكئيب الذي كان مخيما والجراح المثخنة والآلام المبرحة ورغم محاولات الترهيب، لم يفتقد المعتقلون تماسكهم، بل إن البعض منهم حافظ على دعابته وتنكيته مثل الزميل باب الغوث الذي وجه إليه السؤال آنف الذكر، فلم يتردد في الإجابة قائلا: "أجل إنني أعرف من تكونون، إنكم ملائكة العذاب! " يجد الضحية نفسه، عاجزا عن الحركة غالبا بسبب ما تصدع من العظام وما تمزق من النسيج العضلي ولم يعد بمقدوره إلا أن يبقى جالسا مقعدا لا يستطيعالحركة ولا يستطيع حتى الاضطجاع فهو في واقع الأمر، مجرد جثة دامية هامدة يجتاحها الألم ويعتصرها الأسى وقد وصل الأمر ببعضنا أنه صار يحمل على الأيدي من قبل الشرطة من زنزانته، إلى غرفة التحقيق لعجزه عن الوقوف." ص. 58.

 

3. النوع الثالث

 

"كانت الليالي شتوية باردة تهب فيها رياح موسمية قوية، وكانتالحالة الصحية العامة للسجناء، قد ساءت بسبب سوء التغذية وقذارة المحيط وانتشار الحشرات والبكتيريا والجراثيم والفيروسات وانعدام أية وسيلة للنظافة المائية. وكانت الشعور قد بدأت تطول وتشعث والأجسام تذبل وتزداد نحافة، وبسرعة تحولنا إلى ما يشبه الأشباح. أشباح عارية حيث لم يترك للبعض منا من الثياب إلا القليل. لم نكن نقوى على تحمل لسعات البرد القارس حتى ونحن داخل الزنزانات المغلقة. استفاد الجلادون من ظروف الطقس هذه وطفقوا يجبرون بعض الضحايا على الوقوف ساعات طويلة في الساحة الجرداء بين المربعات ويهرقون المياه الباردة عليهم حتى تنتاب أجسامهم رجفة عظيمة وتبدأ أسنانهم تصطك و تحدث صرصرة أو صرير لا إراديا وقد يسقط الضحية أو يترنح، إذا طال الوقوف، وكلما سقط أوقفه الحراس. هذا النوع من التعذيب يترك آثارا نفسية مدمرة وأخرى فيزيولوجية، كما يحدث نزلات بردية شديدة وخطيرة وقد يتأذى الضحية بسبب سقوطه ويصاب بآلام شديدة." ص. 59.

 

4. النوع الرابع

 

"لم يستلهم الجلادون من تراث الأمة، إكرام الإنسان واللطفبالأسرى والسجناء والترفق بأعزة القوم حين يذلون، ولكنهم فيما يبدو، تذكروا أن كندة كانت تئد البنات خوفا من الفضيحة والعار، فاستحيوا هذه العادة الجاهلية واستعملوها وسيلة للتعذيب والترهيب. لقد أمر الجلادون بعض الضحايا بحفر قبور، وأخبروهم بأنها قبور لدفنهم، وحالما ينتهي الحفر، يوضع فيه الضحية وتهال عليه التراب المشبعة بالغبار والمحار والقاذوراتوالانتان حتى لا يبقى منه سوى وجهه. وفي البداية، يصاب الموءودبرعب وذعر شديدين فهو يعرف أنهم قد يقصدون بالفعل، قتله بهذه الكيفية. ويتعزز ذلك الاعتقاد لديه، بالتهديدات التي يطلقها الجلادون قائلين إنه سيهلك في قبره. بعد مضي وقت على الضحية وهو في هذا الحال، يخرج من القبر أشعث أغبر، خائرالقوى بسبب الظمأ والمسغبة. وفي تلك اللحظة، تبدأ معه جلسات التحقيق ومحاولة انتزاع الاعترافات." ص. 60.

 

5. النوع الخامس

 

الحزام الكهربائي، وهو حزام عريض يلف بإحكام حول خصر الضحية وينفخ فيه آليا وكلما انتفخ أحس الإنسان بأنه سيتقيأ بل يشعر وكأن جوفه سيخرج من فيه ودبره وبأن جسمه كله سينفجر،ثم يفقد الوعي. ص. 61.

 

6. النوع السادس

 

الجڨوار هو أحد أشكال التعذيب الأكثر ألما وتدميرا للإنسان والأوسع انتشارا في أوساط الجلادين وداخل سراديب وسرادقات امتهان الكرامة الإنسانية .عملية الجڨوار تتم على النحو التالي: يجلس الضحية وترفع

ركبتاه حتى تلامسا ذقنه وتسدل ذراعاه تحت ركبتيه في اتجاه ساقيه ويحكم ربط معصميه أمام الساقين ويدخل قضيب فولاذي أو خشبي من فوق الذراعين وتحت الركبتين ويكون القضيب طويلا حتى يسهل حمل الضحية به من طرفيه ووضعه بين سيارتين متوقفتين الواحدة منهما بالقرب من الأخرى. عند سحب الضحية بالقضيب ينقلب رأسه إلى أسفل وتكون مؤخرته في الأعلى فيشعر بآلام ممضة ومبرحة لا يصبر عليها أصلب الناس عودا وأقواهم بنية بدنية. أما إذا كان من أصحاب الوزن الثقيل، فلا يستطيع التحمل أكثر من ثوان معدودات. 

 

7. النوع السابع

 

"الباربَكْيو" (الشواء(. يقول عبد الله: "لا إخال أحدا منا رأى أشد منه أو أنكى، ولكن سيتبين لاحقا أنه فعل يسير في جانب ما سترمينا به صروف الزمن من ضراء لا يرضى بها ضب الكدى.تنتزع ثياب الضحية وتؤخذ كميات كبيرة من الجمر الملتهب ويمسك رجال أشداء أطراف الضحية الأربعة ويأخذون يشوونه على ذلك الجمر، كما تشوى الدجاجة أو الشاة، يقلبونه على جنبيه وبطنه وظهره حتى ينضج اللحم ويغيب الرجل عن الوعي." ص. 68.

 

8. النوع الثامن

 

الأسيد، أو حمض الهيدروفلوريك Hydrofluoric acid هو مركب كيميائي غير عضوي خطر للغاية. كانوا يستخدمونه في التعذيبضد السجناء.

 

الإغتصاب

 

في إحدى الليالي، وهو قابع في زنزانته الملاصقة لمكتبالتحقيق، سمع عبد الله، من ضمن ما كان يسمعه كل ليلة، مما لا يرضي ولا يسر من آهات وأنات ألم، صرخات تطلقها إحدى الفتيات المعتقلات في تلك الساعة المتأخرة من ذلك الليل البهيم. كانت تصرخ وأحيانا تذكر الله، وهي محاطة فيما يبدو برجالالشرطة المقنعين؛ وسمع "القائد" يرعد ويزبد ويهدد ويعد بالويل والثبور وعظائم الأمور، ويصدر أوامره الفظة الغليظة إلى الجند الأشاوس أن افعلوا بفلانة كما فعلتم بفلانة.

 

بعد أن اشتد مرض وآلام عدد من السجناء، توجب نقلهم إلى المستوصف العسكري، وكان عبد الله من ضمنهم. واستغرق علاجهم عدة أشهر. وكان المستوصف العسكري ما يزال يدار من قبل ضابطين طبيبين فرنسيين؛ ويمكن القول إن هذا النقل كان الضارة النافعة للمعتقلين، إذ تمكنت منظمة العفو الدولية وغيرها من منظمات حقوق الإنسان، بفضل الطبيبين الفرنسيين، من الإطلاع على الوضع المأساوي الذي عاشه المعتقلون، وتمكن الرأي العام الوطني والدولي لأول مرة، من معرفة حقيقة أو بعض حقيقة ما جرى.

 

الإنسان هو كائن الطبيعة الرائع الذي كرمه الله: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾ (الإسراء، 70). إن تعذيب الإنسان وتدميره وإبادته بسبب أفكاره هو أكثر من مجرد انتهاك لحقوق الإنسان؛ إنها جريمة ضد الإنسانية. لا يمكن للمدافعين الأكثر حماسا عن نظام هيدالة أن ينكروا أنه كان نظاما دكتاتوريا. والدكتاتور لا يمكنه البقاء في السلطة لفترة طويلة دون انتهاك حقوق الإنسان، ودون اضطهاد، ودون معتقلين سياسيين، ودون مساجين. خلال سجن البعثيين حدث ما يكفي لكتابة العديد من الكتب. لذا فإن شهادة عبد الله محمدُّ بالكاد تمثل رسمًا تخطيطيًا لواقع الجنون الرهيب. وسيأتي يوم تعرف فيه الحقيقةبالتفصيل، وسيصاب الموريتانيون بالرعب كما حدث عندما اكتشفت جرائم استالين. تم القبض على البعثيين واستجوابهموسجنهم لمجرد أنهم دعاة الإصلاح. ومنذ ذلك الحين، سيعانونمن العذابات الرهيبة الناجمة عن تسلط هيدالة. تم تكميم أفواهموتعذيبهم، وحوكموا أمام محكمة صورية، و صدرت ضدهمأحكاماً بأقصى العقوبة وتم نفيهم. 

 

في أكتوبر 2012، صادقت موريتانيا على البروتوكول الاختياري للتفاقية مناهضة التعذيب، وفي سنة 2015 صادقت غرفة النواب بالبرلمان الموريتاني على قانون لمناهضة التعذيب وإنشاء آلية وطنية للوقاية منه، وسط حديث عن تعرض أشخاص للعنف في مراكز للشرطة، وتعرض سجناء لما اعتبره ذووهم إخفاء قسريا. وجاء القانون مرفوقا بنص آخر ينشئ آلية وطنية للوقاية من التعذيب، تعنى بمراقبة أوضاع السجون وأماكن الاعتقال المختلفة، تتشكل من نقابات المحامين والأطباء، ومنظمات المجتمع المدني وأساتذة الجامعة، وتتمتع بصلاحيات واسعة في مجال مكافحة التعذيب والوقوف في وجه ممارسيه. واعتبر البرلمانيون القانون والآلية جهدا جيدا لمناهضة ظاهرة التعذيب وطالبوا بتفعيل النصين، وتعميم مضامينهما لخلق ثقافة حقوقية في أوساط الأجهزة الأمنية والمسؤولين عن حماية وتسيير السجون.وجاءت المصادقة على القانون بعد فترة وجيزة من نشر منظمة العفو الدولية مذكرة تحدثت فيها عن تعرض أشخاص للتعذيب في مراكز الشرطة والسجون، قالت المنظمة إنها وثقت عددا منها في عامي 2012-2013؛ كما جاءت وسط حديث ناشطين عن "ممارسات مهينة" يتعرض لها الأشخاص في مراكز الشرطة. ورأى خبراء قانونيون في القانون خطوة جيدة للوقوف في وجه ممارسات التعذيب. لكن زوال هذا الداء - الذي أصبح مصنفا جريمة ضد الإنسانية - يتطلب ثقافة حقوقية واسعة، فالتحقيق الأولي الذي تقوم به الضابطة العدلية ما زال يمر في كثير من الحالات بالتعذيب وسوء المعاملة نظرا لغياب الثقافة الحقوقية في أوساط الشرطة وفي السجون.

 

كتاب "في ضيافة ملائكة العذاب" كتاب مذهل حقًا. بهدوء شديد، يصف المؤلف كل الفظائع التي رآها وعاشها خلال تجربته في السجن، وبأسلوب أدبي جميل. كيف يمكن للأدب أن ينقل رسالة سياسية؟ متى نستطيع أن نتحدث عن أدب السياسة؟ يحيي كتاب "في ضيافة ملائكة العذاب" الكتابة السياسية الإبداعية ويدعونا مؤلفه إلى التفكير في قوة الكلمة. يكافح عبد الله محمدُّبطريقته الخاصة للتعبير عن رغبته، ومشاركة غضبه، وشفاء نفسه، وتحرير نفسه، ويرى أن ذلك سيعطي القوة للآخرين. الكتابة السياسية تبدأ من الجسد - تحكي كيف ينكسر الظلم -تظهر التصدعات بصدق - تلعب بالانزعاج والارتباك لتنشيط القارئ. "في ضيافة ملائكة العذاب" يكشف عن كاتب سياسي ذو قناعات عميقة، راسخ في فكر النضال الاجتماعي لصالح الشعب المستعمر والمستغل. مواقفه مانويّة، متشددة. ينتقد بشدة "تصحر الفكر وجفاف الأخلاق اللذان تضافرا مع فشل الحكامة وهيمنة الثقافة الاستعمارية التي ميعت هوية البلد وأفسدت أخلاقه، فلم يعد المواطن فيه يعرف من هو ولا لماذا أو لمن ينتمي ولا يعرف عن ماذا يدافع فصغرت الأمور الكبرى في عينه كالوطن والدين والأمة وكبرت التفاصيل والمفردات المرتبطة بالحياة اليومية التي تشغله ويعيشها لدرجة الشعور بأنه يعيش فقط من أجلها ".ص. 12. قلم الكاتب أكثر من سلاحه الخاص الذي يدين به، إنه دعوة لثورة شعب بأكمله تضفي على النص طابعا جدي وعاجل.   

 

هذا الكتاب ليس تضخيمًا خطابيًا، فهو يقدم تجربة السجن بمفردات تقنية؛ الاستعارات مقننة للغاية. هذه الكتابة الفريدة من نوعها ترتكز دائمًا على حق تتحدث عنه أو مبرر أخلاقي.هذه الكتابة الملتزمة والمتمردة تغرس القارئ في مجتمع سياسي خاص، وتجعله معارضا للسلطة، وتجعل الثورة معيار الكتابة. الثوري يستخدم اللغة كأدات لسبر طبيعة الإنسان

سبت, 26/10/2024 - 23:46