الحج هو الركن الخامس من أركان الإسلام وهو واجب على من استطاع إليه سبيلا.
قال تعالى : ((وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا))
وورد في الحديث الشريف عن رسول الله ﷺ: «الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا»
ولعظم الحج فإن الحاج الذي لم يرفث ولم يفسق يرجع كيوم ولدته امه فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ ) .
وإن كان بعض العلماء قيد ذلك وعده مخصوصا بالمعاصي المتعلقة بحق اللّه لا حق العباد.
لكن مسألة الاستطاعة مسألة أساسية فيما يتعلق بوجوب الحج.
وقد عرفها بعض أهل العلم بأنها
القدرة على الزاد والراحلة، وصحة البدن، وأمن الطريق، وإمكان المسير.
وذهب المالكيَّة إلى أن الاستطاعة هي إمكان الوصول إلى مكة ومواضع النسك ولو ماشيًا بلا مشقة فادحة مع الأمن على النفس والمال، فالاستطاعة لا تتوقف عندهم على زاد ولا مركوب..
ويتضح من تعريف المالكية أن مفهوم الاستطاعة أوسع من مجرد الزاد والمركوب فهي تشمل الأمن على النفس والمال كما نبهوا إلى مسألة مهمة وهي المشقة الفادحة.
ومن المعروف اليوم أن مفهوم الأمن لم يعد يقتصر على الأمن الشخصي من اللصوص ونحو ذلك بل يشمل تأمين المأوى والعلاج ووسيلة النقل وغيرها وهذه ترتبط بعوامل خارجية لا يمكن أن يأمنها الفرد لنفسه.
وهناك باب أوسع من كل هذا وهو عدم تعريض النفس للهلاك بسبب الزحام الشديد الذي يزداد مع ارتفاع اعداد الحجاج .
وقد أمر الشارع بحفظ النفس وجوبا، قال تعالى :
: { وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ }.
ولأن أعداد المسلمين في زيادة باستمرار بفضل الله سواء بالنمو الديمغرافي أو دخول أعداد جديدة في الإسلام وبما أن شعيرة الحج محددة مكانا وزمانا فإن ذلك يحتم على الدولة السعودية اتخاذ كافة الإجراءات الكفيلة بتنظيم الحج بما يكفل تأدية الركن الخامس في أفضل الظروف ويضمن الحفاظ على الأنفس وأول وسائل ذلك الحد من الزحام الذي لا يمكن ضبطه الا بتحديد الأعداد بالتصريح والتأشيرات.
فخدمة الحجيج، وتقديم المساعدة وتهيئة السبل لهم من واجبات ولاة الأمر، وإذا لم يتم تتبع الوسائل التنظيمية فإن واجب أداء الركن الخامس قد يفوت، أو يصعب القيام به.
قرار منظمة التعاون
ومع أن تنظيم الحج من صميم مهام ولاة الأمر في المملكة العربية السعودية فإنه كذلك عليه الإجماع من الجهات الرسمية في كل الدول الإسلامية الأعضاء في منظمة التعاون الإسلامي فقد اتفق وزراء خارجية الدول الإسلامية على كيفية تحديد نسب الحجاج كل عام في مؤتمرهم السابع عشر الذي عقد في عمَّان بالمملكة الأردنية الهاشمية، من 3 – 7 شعبان 1408هـ بأن تكون نسبة حجاج كل دولة، هي حاصل قسمة عدد سكان الدولة على عدد المسلمين في العالم
ومما ورد في القرار:
وإذ يقر - المؤتمر- بأن استضافة وتيسير وتسهيل انسياب الحجاج يستلزم تنظيم جموع الوافدين من مختلف أصقاع الأرض بما يؤمن تمتعهم بالخدمات التي توفرها لهم الأجهزة المختصة في المملكة العربية السعودية بصورة تتناسب مع الواقع المكاني لمناسك الحج والعمرة:
1 – يؤيد الإجراءات التي ستتخذها المملكة العربية السعودية والتي تحدد عدد الحجاج بنسبة حاصل تقسيم عدد سكان الدولة على عدد المسلمين في العالم
2 – ويطلب من كل الدول الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي التعاون مع حكومة المملكة العربية السعودية في كل ما من شأنه تنفيذ الإجراءات الملائمة لذلك، بما يكفل تحقيق تكافؤ الفرص بين جميع الحجاج، وتأمين أداء مناسكهم، وتوفير جميع وسائل الراحة لهم.
رأي المجامع الفقهية
وقد أيدت عدة مجامع فقهية أيضا ما تتخذه المملكة من إجراءات لتنظيم الحج.
فبالنسبة لتصريح الحج أصدر مجمع الفقه الإسلامي الدولي بيانا في شهر مايو 2024 حول عدم جواز الذهاب للحج دون تصريح
وثمّن المجمع ، البيان الصادر عن هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية، بشأن عدم جواز الذهاب للحج دون تصريح.
وعد الأمين العام للمجمع الدكتور قطب مصطفى سانو في بيان له، البيان شرعيًا حكيمًا تدعمه الأصول العامة للشريعة والقواعد الفقهية الكلية التي تقرر وجوب دفع الضرر قبل وقوعه وبعد وقوعه، وتقديم درء المفاسد على جلب المصالح، وتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام، والاعتبار بالمآلات المترتبة على الأفعال إقدامًا وإحجامًا، ووجوب طاعة ولي الأمر في المعروف وحرمة مخالفته، فضلاً عن مراعاة المصالح الضرورية الخمس (النفس، والدين، والعرض، والمال، والعقل) التي جاءت الشريعة الغراء لحفظها، وإثباتها، وإبعاد كل ما يخل بها، أو يجعلها تختل أو تتعطل، كما هو الحال في الأضرار الجسيمة والمخاطر المتعددة المترتبة على عدم الالتزام باستخراج التصريح بالحج في هذا العصر".
وكان المجمع قد دعا قبل سنوات المسلمين في سائر أنحاء العالم إلى مؤازرة قرار المملكة العربية السعودية القاضي بتخفيض نسبة عدد الحجاج والمعتمرين ومعاضدته؛ نظرًا لما تشهده مرافق المسجد الحرام من أعمال توسعية، واصفًا الاستجابة لهذا القرار ممن سبق لهم أداء الحج والعمرة، بأنه نوع من الإيثار على النفس لإتاحة الفرصة لمن يؤدون النسك والفريضة لأول مرة.
ومما جاء في دعوة المجمع ايضا:
(بسبب جريان أعمال الإنشاء والتشييد والبناء حاليًا فقد تضيق مساحة المطاف وسعة الصحن عن استيعاب الأعداد المعتادة للطائفين، وبناء على مصلحة الحجاج والمعتمرين وحمايةً لهم من أي خطر يُحدق بهم ، فقد صدر قرار المملكة بتخفيض أعداد الحجاج القادمين من الخارج ومن الداخل، بغية تطوير تلك المرافق في المسجد الحرام لتمكينها من استيعاب أعداد بشرية مضاعفة مستقبلا بمشيئة الله، إضافة إلى التيسير على الضعفاء والعجزة وكبار السن وسائر ذوي الاحتياجات الخاصة، وتخصيص مرافق تخصهم وإزالة العوائق التي كانت تعترض أداءهم للطواف ودخول المسجد الحرام والخروج منه).
دار الإفتاء المصرية
جاء في فتوى لدار الإفتاء المصرية:
(ما تقوم به الجهات المعنية القائمة على شؤون الحج والعمرة من إصدار قرارات تنظيمية لفريضة الحج، نحو: تحديد أعداد الحجيج وأعمارهم، واشتراط حصولهم على بعض التطعيمات متفقٌ تمامًا مع أحكام ومقاصد الشرع الشريف، بما أقامهم الله تعالى فيه من رعاية الحجيج ومسؤولية الحفاظ على سلامتهم وأمنهم، ومتَّسقٌ مع ما أعطاه الشرع الشريف لِأُولِي الأمر من رعاية المحكومين، وإباحة تقييد إقامة الشعائر الدينية على قدر الحاجة وبما لا يخالف أصول الشريعة؛ كالحج ونحوه، فلهم أن يتخذوا كافة الإجراءات التي تعين على ذلك، وتسمح للحجيج بأداء هذه العبادة على أكمل وجه من غير الوقوع في الحرج والمشقة نتيجة الزحام).
أجر النية أفضل من مخالفة الانظمة
إن الذين يسعون للحج بطرق مخالفة للأنظمة قد يعرضون أنفسهم وغيرهم للمخاطر، وعند عدم حصولهم على تصريح فهم في حالة عدم استطاعة والحج لا يجب إلا على المستطيع (( لا يكلف الله نفسا إلاوسعها))، ومن فضل الله أن نيتهم تكفيهم ليكتب لهم الأجر فإن القاعدة أن من نوى طاعة وعزم عليها عزما جازما، ثم حيل بينه وبين الفعل لسبب كوني، أو شرعي، فإنه يكتب له ثوابها تاما. ودليل ذلك ما ورد في الحديث: ((إِنَّ اللهَ كَتَبَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ، فَمَنْ هَمَّ بِالْحَسَنَةِ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبهاَ اللهُ لَهُ حَسَنَةً، وَمَنْ عَمِلَهَا كَتَبَ اللهُ لَهُ بِهَا عَشْرًا إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ وَأَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ. وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ وَلَمْ يَعْمَلْهَا، كَتَبَ اللهُ لَهُ بِهَا حَسَنَةً كَامِلَةً، وَمَنْ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِ سَيِّئَةً وَاحِدَةً)).
إن الذين يحاولون الحج خلافا لأمر ولاة الأمر وتجاوزا للأنظمة التي وضعت للمصلحة العامة يخشى أن ينطبق عليهم قول الإمام الشافعي:
رام نفعا فضر من غير قصد،، ومن البر ما يكون عقوقا.
فالمملكة إذ تنظم الحج بتحديد العدد ووجوب الحصول على تصريح الحج لا تفعل ذلك منعا لأحد من الحج إنما تفعل ذلك انطلاقا من واجبها في خدمة الحجيج والسهر على راحتهم والحفاظ على أرواحهم مما قد يصيبهم من أضرار بسبب الزحام الذي قد يؤدي إلى هلاك الأنفس وهي تطبق ما أقرته الجهات الرسمية في الدول الإسلامية وما أفتى به عدد من المجامع الفقهية الكبرى وفي مقدمتها مجمع الفقه الإسلامي الدولي التابع لمنظمة التعاون الإسلامي الذي يمثل رايه ما يشبه الإجماع.
تسخر المملكة كل إمكاناتها من أجهزة أمنية وصحية وإسعاف ووسائل نقل ووسائل إعلام وغير ذلك بإشراف ولاة الأمر وهدفها الأسمى سلامة وراحة الحجيج وتأمين الخدمات التي خطط لها على أساس عدد محدد وأي زيادة فوضية للعدد ستؤثر سلبا على تلك الخدمات.
والتصريح هو وسيلة ضبط العدد حفظا للمصلحة العامة وعند عدم وجود التصريح تنتفي الاستطاعة وإذا انتفت الاستطاعة سقط الواجب عن الذي لم يؤد الفرض سابقا فكيف بالمتنفل الذي يكرر الحج؟
الهادي بن محمد المختار النحوي
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا وحبيبنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين