تعقيب على تجديد أعضاء الآلية الوطنية للوقاية من التعذيب

عندما قررت موريتانيا إنشاء الآلية الوطنية للوقاية من التعذيب كتبت، قبل تعيين تشكلتها الأولى، مقالا تحت عنوان: غيوم الوقاية من التعذيب في موريتانيا، نشر في مارس 2016.. بينت فيه أن نجاح الهيئة الجديدة مرهون باختيار أشخاص أكفاء وحذرت من تعيين أعضائها على أسس غير موضوعية:
حدث ما كنت أخشاه: في الفترة الأولى عين أستاذ لغة إنجليزية رئيسا للآلية ومن بعده عينت أستاذة لغة فرنسية لا بعرف لهما اهتمام بحقوق الإنسان قبل أن يخلفها باحث مختص في علم الاجتماع لا يزال يرأس الهيئة.. يجوز تعيين شخص في ميدان غير تخصصه ولكن يجب أن يكون مهتما بالمجال الذي يعين فيه.. وفي مجال الحقوق ينبغي اختيار مهتم أو مناضل كما هو حال الطبيب التونسي منصف المرزوقي الذي نذر حياته للعمل والنضال من أجل حقوق الإنسان.. 
آلية التعيين أهم من إنشاء الآلية..
وتوضيحا لمعايير التعيين في رئاسة وعضوية الآلية الوطنية للوقاية من التعذيب أعيد نشر المقال المذكور آملا أن يطالعه أولو الأمر.
_____________

 

 

*غيوم الوقاية من التعذيب في موريتانيا*

(مقال نشر في مارس 2016)

 

أخيرا وبعد زهاء أربع سنوات على توقيع مريتانيا للبروتوكول الاختياري لمناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة (بتاريخ 27 شتنبر 2011) لاحت غيوم الوقاية التي يتوقع أن تمطر خلال شهر مارس الجاري (2016).. صدر القانون رقم 2015-034، بتاريخ 10 شتنبر 2015، المتضمن إنشاء الآلية الوطنية للوقاية من التعذيب وأصدر الوزير الأول مقرره رقم 2016-052 بتعيين لجنة لانتقاء أعضاء الآلية استفادت من ورشة تدريبية انصبت على المعايير والشروط المطلوبة لعضوية الآلية وصرحت السلطات ببدء العد التنازلي لتعيين أعضاء الهيئة الجديدة.. إلا أن تطلع الموريتانيين الدائم للغيوم وترقبهم للقطر علمهم أن المزن قد لا تمطر وقد يكون قطرها عديم البركة لا ينبت كلأ ولا يبعث عشبا لذلك ارتأيت على السجية، من خلال هذه المعالجة التوجيهية، استجداء غيث مبارك بتحفيز إجراءات يفيض نفعها على البلاد والعباد وسأبدأ بالمآخذ على القانون المنشئ للآلية الوطنية للوقاية من التعذيب (1) قبل ذكر المؤهلات والمهام المطلوبة (2) ومن ثم أستعرض العلاقة المحتملة للآلية بالسلطات (3) وأخلص للآفاق المستقبلية للعمل (4).

 

1. المآخذ على القانون المنشئ للآلية الوطنية للوقاية من التعذيب:

أ. يتضمن القانون رقم 2015-034 إنشاء: "الآلية الوطنية للوقاية من التعذيب" وبالتمعن في التسمية يتبين أن السلطات المعنية اكتفت بنسخ العبارة الأممية ولصقها (في قانون آ. و. و. ت) كما وردت في البروتوكول الدولي وبدون تصرف بعكس أغلب الدول التي اجتهدت واتخذت تسميات متعددة لآلياتها الوطنية فقد عهدت جمهورية مالي بالمهمة إلى اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان وكلفت إسبانيا مكتب حامي المواطن وأنشأ السنغال المراقب الوطني لأماكن تقييد الحرية وعهدت فرنسا بالمهمة للمفتش العام لأماكن تقييد الحرية (شخص طبيعي يعين بمرسوم رئاسي ويعهد إليه باختيار مساعديه).. ومع البحث في الموضوع لم أطلع على أية دولة، باستثناء موريتانيا، اعتمدت تسمية الآلية الوطنية للوقاية (MNP) ربما لأن العبارة لا تعتبر اسم علم مميز لمسماه.

ب. إلا أن أكبر المآخذ على القانون رقم 2015-034 المنشئ للآلية الوطنية للوقاية من التعذيب تتعلق بطريقة اختيار الأعضاء. ففيما يتعلق بتعيين رئيس الآلية لا يبدو أن قانون آ. و. و. ت أخضعه لمسطرة انتقاء خاصة وإنما ترك لرئيس الجمهورية حرية اختياره فإن تفضل بتعيينه من اللائحة المنتقاة فنعما هي أما إذا قرر "استيراد" رئيس من خارج المصطفين فسيكون لهبوطه المظلي على رؤوس الأعضاء أثر سيئ على الأداء المستقبلي للجنة فالتعيين الخارجي ثلمة في تشكيل خلية تلزم الدولة، بموجب المادة 18 من البروتوكول الإختياري، بضمان استقلالها الوظيفي وبأن توفر لها القدرات اللازمة والدراية المهنية. لجنة ينبغي أن تكون مؤهلة لتلطيف المناخ الحقوقي والعقابي في البلد لا أن تكون مجرد شكلية صورية للتأقلم مع اتفاقية دولية صادق عليها بلدنا، منذ أكثر من أربع سنوات وتأخر في الوفاء بمتطلباتها أكثر من ثلاثة أعوام وهو ما يحفز على الاجتهاد لتكون مجدية (ما اتعود عصبه أو تني).
أما فيما يتعلق بأعضاء الآلية فنلاحظ أن القانون رقم 2015-034 لم يقرر آلية شفافة (حتى النهاية) لاختيارهم فبالرجوع لمادته السابعة نتبين أن عمل لجنة الإنتقاء لن يكون حاسما، ذلك أنها ستختار أربعة وعشرين مترشحا (24) تحيل أسماءهم إلى رئاسة الجمهورية التي ستصطفي منهم اثني عشر عضوا (12) سيشكلون، بالإضافة للرئيس، مجمل أعضاء الآلية. النوافذ المظللة للقصر الرمادي قد تحد من الرؤية في المراحل الحاسمة لاختيار الأعضاء ولذلك فمن المشروع أن يتخوف المراقبون ودعاة الشفافية من ممارسة رئيس الجمهورية - من تلقاء نفسه أو بإيعاز من غيره - لصلاحياته باختيار المهادنين وإقصاء المشاكسين الذين يعتبرون، في الغالب، أكثر تأهيلا للقيام بالمسؤولية لأسباب يلخصها المثل الشعبي (راعي لخلاك طياش).

2. مؤهلات ومهام الآلية الوطنية للوقاية من التعذيب:

يظل تنظيف الوجه أنفع من تغطيته بمساحيق سرعان ما تتبدد لتبدو بقع الأديم على حقيقتها.. لذلك يتوجب على رئيس الجمهورية أن يحسن الإختيار لبلده قبل أن يتأتى تلافى الثغرات التشريعية التي تضمنها القانون الجديد فالهدف من الآلية التي سيتوجب على الدولة أن تنفق عليها موارد هامة (تنفيذا لالتزام قطعته على نفسها) هو أن تنعكس إيجابا على مناخ الكرامة في البلد بأن تحمل السلطات على معاملة مقيدي الحرية طبقا للمعايير الدولية التي يتعين تعميمها وأن تراقب المحابس والسجون والمعابر مما يتطلب كفاءة تتيح التفاعل المهني مع الفاعلين الوطنيين والدوليين.. لذلك يتحتم الاجتهاد في اختيار أعضاء أكفاء ومستقلين جديرين بكسب ثقة الداخل والخارج.. فلقد قررت الجمعية العامة للأمم المتحدة عندما اعتمدت البروتوكول الإختياري لمناهضة التعذيب، بموجب قرارها رقم:A/RES/57/199 ، بتاريخ 18 كانون الأول/ديسمبر 2002، عدم جواز تبعية الآلية الوظيفي للنظام وقطعت المادة الأولى من القانون 2015-034 الموريتاني الشك باليقين عندما صرحت بأن الآلية الوطنية للوقاية من التعذيب لا تتلقى، في إطار صلاحياتها، تعليمات من أية سلطة.
يتعين انتهاز الفرصة لتحمل الهيئة المرتقبة ريحا طيبة للمنظومة العقابية في موريتانيا مما يوجب الاجتهاد في اختيار أعضاء الآلية بتوخي توفر مواصفات خاصة تتيح رسم إستراتيجية واضحة لتغيير ظروف المساجين ومقيدي الحرية وتحسين وجه موريتانيا فالتعسف لا يخدم بلدا. ينبغي أن يدرك الجميع بأن اختيار هيئة وديعة "تسير جنب الحائط" تستشير الرئيس أو مدير الديوان و"تشتم رائحة فم" وزير العدل أو النائب العام وتشعـر الولاة وقادة فرق الدرك في الداخل بقدومها سيكون إيذانا بفشل المهمة وإخفاق بلد برمته.. مسايرة الركب الدولي تتطلب أن تكون اللجنة مستقلة في الواقع، مطلعة، ناصحة، حيوية ويقظة مما يوجب تشكيلها من خبراء مرفوعي الرؤوس، عارفين بالمساطر، جديرين بالثقة وقادرين على التأثير في واقع مقيدي الحرية.

ب. تطبيقا لتعهدات الدولة بموجب البروتوكول الإختياري لمناهضة التعذيب وطبقا لقانون آ. و. و. ت سيتمحور عمل الآلية حول السجون التي يتوجب أن تضع السلطات لائحتها الحصرية كي تتمكن الآلية من زيارتها وفحص مدى توفرها على الشروط المطلوبة في مواقعها ومستلزماتها مع النظر فيما إذا كان من الجائز أصلا إقامة بعضها في مناطق عسكرية مغلقة أو في أماكن نائية بعيدة عن مراكز القضاة المختصين في تهم النزلاء ونظر المظالم. وربما تكون قضية المحبوسين في بئر أم اكرين من أكبر الإشكالات الراهنة لأنه سيتعين على الآلية تقدير ما إذا كان من الجائز حبس الشخص احتياطيا في مكان بعيد من قاضيه ودفاعه وذويه وتعميق فكرة ما إذا كان النفي مقبولا في المنظومة العقابية أصلا بفحص ما إذا كان عقوبة قاسية أو مهينة وتفحص مدى جواز إمضائه دون حكم قضائي حائز على قوة الشيء المقضي به.
ومن واجب الآلية أن تباشر تنقية الترسانة القانونية والتنظيمية لاقتراح مراجعة مقتضياتها المخالفة وملاءمتها مع مبادئ تقييد الحرية المتعارف عليها دوليا وأن تجمع البيانات قبل بدء التحريات والعمل الميداني الذي يتطلب أن توفر للمصرحين لها ضمانات الأمان والسرية الكفيلة بحصولها على المعلومات التي تستخدم في مواجهة التعسف بإرشاد المخالفين أولا وإنذارهم بطريقة "مستورة" قبل أن يرتفع صوتها بفضح التجاوزات طبقا لتدرج واضح يتعين أن يسطر في النظام الداخلي الذي سيكون، بحسب القانون، النقطة الأولى على جدول أعمال الآلية قبل إطلاق التحسيس وحملات التعبئة. لذلك ينبغي أن تتسع صدور الجميع خاصة قادة الجيوش لقبول تحركات غير مألوفة لا في المحابس فقط وإنما داخل الثكنات لأنه سيكون من حق الآلية بل من واجبها أن تقف على غرف حجز الجنود "لمدزرتيين" لتتأكد من معاملتهم كما يجب. كما أن من الخليق بالآلية أن تطمئن على المهاجرين الأجانب الذين يلقون بأيديهم إلى التهلكة بحثا عن العيش الكريم.

3. علاقة الآلية الوطنية للوقاية من التعذيب مع السلطات:

يصنف القانون الفرنسي المفتشية العامة لأماكن تقييد الحرية بأنها سلطة إدارية مستقلة إلا أن المشرع الموريتاني تحفظ في تصنيف الآلية الوطنية للوقاية من التعذيب.. ولذلك، وفي انتظار أن يتبلور نظام الآلية، يمكن اعتبارها جزءا متجزئا من السلطات العامة في موريتانيا بحكم عدم خضوعها لوصاية أي من السلطات التقليدية في الدولة.. ومع أن القانون لم يقرر للآلية صلاحيات قضائية أو إدارية باتة إلا أنه ألزم المصالح المعنية بإقامة حوار بناء مع الآلية وبالإستجابة لتوصياتها في أجل شهر (1) واحد.. وللآلية قبعة دولية لإنشائها على شاكلة اللجنة الفرعية لمنع التعذيب المستحدثة في إطار الأمم المتحدة.
ولإنجاز مهمتها لا مناص للآلية الوطنية للوقاية من التعذيب من التعامل مع السلطات العامة وخاصة القضاء بشقيه الواقف والجالس فمن مهامها اليومية تحيين لائحة مقيدي الحرية الذي يتطلب تعاون أعضاء النيابة العامة المختصة في تلقي الشكاوى المتعلقة بالتجاوزات الجزائية. كما أنه لا غنى عن فتح قنوات الإتصال مع القضاء الجالس لأن وجوب الإسراع في التحقيق يتطلب استجواب المحبوسين احتياطيا على الأقل مرة في الأسبوع وتذليل الصعاب التي تقف دون ذلك فمن المهين أن نحبس إنسانا على ذمة التحقيق ونتركه أسبوعا دون أن نسأله.
ولتنجز الآلية الوطنية للوقاية من التعذيب مهامها لا بد من التعاون الكامل للإدارة وخاصة مصالح الأمن وأفراد القوة العمومية الذين يتعين أن يتلقوا تعليمات صريحة بفتح الأبواب وإفساح الطريق لتسهيل عمل الآلية.
4. الآفاق المستقبلية لعمل الآلية الوطنية للوقاية من التعذيب:
تعتمد الآفاق على الإرادة السياسية التي يمكن أن تجعل من الآلية الوطنية للوقاية من التعذيب مصلحة منضبطة تندمج في السياق وتركز عملها على استنفاد مخصصاتها المالية كما أن بمقدورها أن تجعل منها وسيلة فعالة لتغيير واقع مقيدي الحرية وتحسين وجه البلد. سيعتمد ذلك بدرجة حاسمة على تصرف رئيس الجمهورية في اختيار رئيس وأعضاء الآلية.
إن تقييد الحرية لما يمثله من ضغط يجب أن يمارس طبقا لضوابط محددة متفق عليها على الصعيد الدولي وبالانطلاق من مبادئ مقنعة وباعتماد إستراتيجية مدروسة يمكن أن تنجز الآلية الموريتانية للوقاية من التعذيب مهمتها وأن تتطلع للتميز في عروضها بأن تقترح على المجتمع الدولي معايير لمعاملة مقيدي الحرية كمعيار قرب المحبس من القاضي ومعيار الدورية الزمنية لاستجواب مقيدي الحرية.
وجملة القول أن صرف أموال الدولة الموريتانية ينبغي أن يكون مبررا بتحقيق مصالح حيوية لمواطنيها وفي حال الوقاية من التعذيب يتمثل الهدف المنشود في رحمة مقيدي الحرية بمعاملتهم طبقا للمعايير الدولية فالتعسف لا يخدم بلدا. وبعد الغيث لا ينبغي أن تظل الأرض قاحلة.

 

المحامي/ محمد سيدي عبد الرحمن إبراهيم

اثنين, 19/08/2024 - 23:33