يألف الإنسان ويحب مسقط رأسه فطرة وجبلة ولكن ظروف الحياة قد تضطره لترك وطنه لأكثر من سبب مثل البحث عن الحرية والكرامة وممارسة الشعائر والبحث عن الرزق الحلال أو التعليم أو كل ذلك.
ولا تعني هجرة الإنسان من وطنه انفصاله عنه مهما تحسنت حالته في محل إقامته الجديد، فيظل يحن ويشتاق إلى وطنه الأول .
قال الإمام الغزالي: " والبشر يألفون أرضهم على ما بها، ولو كانت قفرًا مستوحَشًا، وحبُّ الوطن غريزةٌ متأصِّلة في النفوس، تجعل الإنسانَ يستريح إلى البقاء فيه، ويحنُّ إليه إذا غاب عنه، ويدافع عنه إذا هُوجِم، ويَغضب له إذا انتقص".
بلادي وإن جارت علي عزيزة،، وأهلي وإن ضنوا علي كرام
والهجرة من السمات البشرية للأسباب التي ذكرنا وغيرها، وأوضح مثال هنا هو هجرة سيدنا رسول الله صلى عليه وسلم من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة.
فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف على الْحَزْوَرَةِ فقال: (والله إنك لخير أرض الله وأحب أرضٍ إليَّ ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت منك).
وقبل ذلك كانت هجرة المسلمين إلى الحبشة هربا من أذى المشركين.
وقد وصفت أم المؤمنين أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحدث فقالت:
(لما ضاقت علينا مكة، وأوذي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفتنوا، ورأوا ما يصيبهم من البلاء، والفتنة في دينهم، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يستطيع دفع ذلك عنهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في منعة من قومه وعمه، لا يصل إليه شيء مما يكره مما ينال أصحابه، فقال لهم رسول الله عليه وسلم إن بأرض الحبشة ملكا لا يظلم عنده أحد، فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجا ومخرجا مما أنتم فيه، فخرجنا إليها أرسالا - أي جماعات - حتى اجتمعنا بها ، فنزلنا بخير دار إلى خير جار، أمنا على ديننا ولم نخش منه ظلما).
فإذا كان سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام هاجر من احب بلاد الله إلى نفسه فكيف ببقية البشر.
ومع أن الهجرة في الغالب تأتي اضطرارا لكنها قد تأتي اختيارا لما فيها من الفوائد الكثيرة:
تَغَرَّبْ عَن الأَوْطَانِ في طَلَبِ الْعُلَى وَسَافِرْ فَفِي الأَسْفَارِ خَمْسُ فَوَائِد
تَفَرُّيجُ هَمٍّ، وَاكْتِسابُ مَعِيشَةٍ وَعِلْمٌ، وَآدَابٌ، وَصُحْبَةُ مَاجِد
الهجرة ظاهرة عالمية
حسب تقرير البنك الدولي للعام 2024 بلغ عدد المهاجرين في العالم نحو 184 مليون فردا، من بينهم 37 مليون لاجئ، أي ما يمثل 2.3% من إجمالي سكان العالم.
وحسب الأرقام الصادرة في تقرير إدارة الأمم المتحدة للشؤون الاقتصادية والاجتماعية فأن 232 مليون شخص، أو ما يعادل 3.2% من سكان العالم، يعيشون خارج أوطانهم في أنحاء العالم، مقارنة ب 175 مليون في عام 2000 و154 مليونا في عام 1990.
وهذه الأرقام تبين بجلاء ازدياد أعداد المهاجرين حول العالم ولعل من أسباب ذلك الحروب والفتن وسوء الأوضاع الاقتصادية وانتشار البطالة في كثير من دول العالم.
هجرة الموريتانيين
الف الموريتانيون الترحال والسفر والاغتراب ولعلهم ورثوا ذلك من طبيعتهم البدوية التي كانت تملي عليهم دوام الرحيل بحثا عن الماء والمرعى والكلأ .
عرف الشناقطة الهجرة إلى المغرب والمشرق والخليج ويمكن وصف هذه الهجرة في مرحلة زمنية معينة بأنها هجرة العلماء ، كما عرفوا هجرة ذات طابع تجاري اقتصادي إلى دول القارة السمراء وإن كانت هذه الهجرة ذات طابع دعوي عفوي.
يقول الشيخ الخليل النحوي في " بلاد شنقيط المنارة والرباط " : (والحق أن التجار والدعاة الشناقطة أولئك الجنود المجهولين الذين لم ينضووا تحت لواء دولة ذات منعة ولم يسيرهم سلطان ولم ينتظموا في جيش أوخلف قائد بعينه ، هم الذين واصلوا حركة الفتح في إفريقيا واستطاعوا زرافات ووحدانا أن ينشروا الإسلام في مناطق واسعة من القارة وليس لهم من العدة والسلاح إلاالحكمة والموعظة والأسوة الحسنة ، وقد كابدوا في ذلك من المشاق القدر الكبير) .
كانت الهجرة عموما في مطلع القرن الماضي والقرن الذي قبله، سواء كانت علمية أو تجارية، محدودة من حيث العدد لصعوبة المواصلات وما يكتنف السفر من مخاطر ومشقة، لكن مع تطور وسائل النقل والتواصل تكثفت الهجرة إلى الخليج وإلى الدول الإفريقية وبأعداد أقل إلى أروبا وخاصة فرنسا لكن الهجرة المثيرة والمكثفة هي الهجرة الحديثة او الحالية إلى الولايات المتحدة حيث قدر عدد الموريتانيين الذين وصلوا إلى أمريكا خلال السنة الماضية بحوالي 12 ألف شخص .
وعموما فحسب بعض التقديرات الحديثة نسبيا فإن عدد الموريتانيين المقيمين في الخارج يقدر بنصف مليون شخص وهذه نسبة كبيرة جدا إذا ما قورنت بالنسبة العالمية التي تقدر بأقل من 3%.
الغربة بين الماضي والحاضر
الغربة بطبيعتها صعبة على الإنسان لكنها كانت أصعب في الماضي بسبب مخاطر الطريق والبعد عن الأهل والأحباب وانقطاع أخبارهم فلا يبقى للمغتربين، والحال هذه ، سوى الذكريات التي تهيج الحنين والشوق إلى الوطن ومرابع الصبا.
وقد دون الشعراء على مر التاريخ صعوبة الفراق والشوق إلى الوطن والأهل.
فهذا ابن البراء التجيبي، يصوّور تحسره على الشباب، وحنينه إلى أوطانه:
سَقىَ وَاكِفُ القطْرِ الجزيرةَ إِنَّني
إليها وإنْ جَدَّ الفِراقُ لَوَامِقُ
ديارًا بها فارقتُ عصرَ شَبِيبتي
فيا حبَّذا عصرُ الشَّبابِ المفارقُ
شبابٌ شَفَى نفسي وَوَدَّعَ مُسْرِعًا
كما زار طيفٌ أو تَبَوَّجَ بارقُ
قضيتُ بِه حَقَّ الهَوَى وأطعْتُه
فأيامُه في عين فِكري حدائِقُ
وهذا ابن الشماخ يصور رحيله عن أحب الديار إليه - ديار شبابه بإشبيلية - راجيًا الإياب بفألٍ سمِعه، فيقول:
يا ليتَ شِعْريَ هل دامتْ لَهمْ حالُ ،، عَهِدْتُها في حِفاظ العهْد أم حالوا؟
إلى أن يقول:
فإن تَكُنْ سَائلًا عَمَّنْ تركتُ فَقَدْ
شَابَ الشّبابُ وَقَدْ شَبَّ الأطَيْفَالُ
صبرتُ والبُعْدُ أحوالٌ وذا عَجَبٌ
ولم أكُنْ صَابرا والبُعْد أمْيالُ
أرجو الإيابَ بفألٍ فيه أسمعُه
والدهرُ يَفْعلُ ما لا يُخْبِر الفالُ
هذا عن الغربة في الماضي
أما الغربة اليوم فقد اختلف وضعها، مع أنها تبقى غربة، فمع تطور وسائل الاتصال والنقل أصبح المغترب يعيش مع أهله بشكل يومي عبر سبل ووسائل التواصل المختلفة بالصوت والصورة كما أصبح بإمكانه العودة إلى وطنه من أقصى بقعة في الأرض خلال ساعات معدودة.
بين غربتين
كما ذكرنا فإن الغربة من التجارب الإنسانية الصعبة التي تجعل الإنسان أكثر شوقا وحنينا إلى وطنه وتحديدا إلى مسقط رأسه
قال الأصمعي: "سمعت إعرابيًّا يقول: إذا أردت أن تعرف الرجل فانظر كيف شوقه إلى أوطانه، وتشوقه إلى إخوانه....
لكن الإنسان الذي اكره على الهجرة بسبب عوامل سياسية او اقتصادية أو اجتماعية او غيرها ووجد في موطنه الجديد ظروفا للعيش الكريم مكنته من شق طريقه إلى النجاح والتميز بحيث يفيد نفسه وذويه ومجتمعه وبلده فإنه يصبح مدينا لبلد إقامته الذي يستحق عليه ولاء وميلا قلبيا وحبا يوازي حب الوطن الأول وربما أكثر ومما يعزز استحقاق الوطن الجديد للولاء والمحبة دعاء سيدنا رسول الله صلى عليه وسلم:
(اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، وانقل حماها إلى الجحفة، اللهم بارك لنا في مدها وصاعها).
تأثير العامل الثقافي
يعد العامل الثقافي احد اهم العوامل المؤثرة سلبا أو إيجابا في حياة المغترب، فالإنسان الذي يعيش في مجتمع يشبه مجتمعه في الثقافة بما في ذلك الدين واللسان والعادات الاجتماعية يختلف عن المغترب الذي يعيش في مجتمع مغايير لمجتمعه ثقافة وعادات وكما يقول المفكر الإيراني علي شريعتي: فوطن الانسان الحقيقي ليس مسقط رأسه بل ثقافته.
الغربة تحلو بالتميز والنجاح والعطاء وحسن التمثيل لكنها تصبح وبالا عندما يترك صاحبها سمعة سيئة بسبب سوء السلوك والتصرف الطائش مثل التحايل والغش وعدم احترام القوانين والإضرار ببلد الإقامة فيضر بذلك سمعة مجتمعه وبلده الأصلي بعد أن أضر بنفسه.
الهادي بن محمد المختار النحوي
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا وحبيبنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين