تعاني الأمة اليوم بل ومنذ قرون من الصراعات الفكرية فقد تعددت المشاكسات والاتهمات المتبادلة بين معظم طوائف ومذاهب المسلمين حتى وصل الأمر حد تبادل التكفير وأكثر من ذلك كان التكفير مطية للتفجير والتدمير وزرع الفتن.
ويمثل الخلاف الشديد بين السلفية والتصوف أحد أكثر نقاط ضعف الأمة وأسباب تفرقها وتشتتها والمصيبة الأكبر هي عدم اكتراث العلماء والحكماء من الطرفين، إلا من رحم ربنا، بالمخاطر المترتبة على استفحال هذا الخلاف وعجزهم عن إدارته بطريقة تقرب بين المدرستين او تخفف الأضرار الجانبية وتمهد لتعايش يحفظ للأمة وحدتها وتماسكها.
ولعل الخطوة الأولى في إدارة الخلاف هي الانتباه للعناوين والمسميات والابتعاد عن التنابز بالألقاب، فالسلفيون يسمون الصوفية بالقبوريين وعبدة الأوثان ويخرجونهم من أهل السنة وربما أخرجوهم من الملة والصوفيون يسمون السلفيين بالوهابية ويتهمونهم بالجفاء والتقصير في محبة النبي صلى الله عليه وسلم، مع مراعاة عدم التعميم بالنسبة للطرفين.
ولعل الخطوة الأولى لبناء حوار جاد يفضي إلى ثمار مفيدة تتمثل في أن يخاطب كل طرف بالاسم الذي اختاره لنفسه فلا يستخدم السلفي عبارات من قبيل قبوري ونحوها لوصف أهل التصوف ولا يخرجهم من أهل السنة لأن ذلك من الظلم والعدوان وكذلك لا يصف الصوفي السلفيين بأنهم وهابية وأنهم لا يحبون رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالخلاف في نهاية المطاف هو خلاف بين طوائف من أهل السنة.
وكذلك من المهم أن يدرك الفريقان أن الخلاف ليس بين حق وباطل ولا إيمان مقابل كفر.
ولتحرير المسألة أكثر لابد من التنبيه إلى أن الجانب السلفي هو المهاجم غالبا بحجة الدفاع عن التوحيد ومحاربة البدع والخرافات وإنكار المنكر، وهذه أهداف مشروعة لكنها تحتاج إلى بعض التفصيل.
فمفهوم التوحيد عند السلفي لا يعدو كونه، في بعض صوره على الأقل، مجرد استنباط وفهم لطائفة من العلماء لا يلزم غيرهم، أما البدعة فقد اختلف فيها العلماء فمنها الممدوحة ومنها المذمومة وفيما يتعلق بتغيير المنكر فالمقرر عند العلماء أنه لا إنكار في المختلف فيه وحتى المجمع على إنكاره له ضوابط شرعية معروفة يجب الالتزام بها مثل الرفق واللين مع المخالف والمجادلة بالتي هي أحسن.
نعم عند الصوفية ما يسوغ إنكاره ويحتاج إلى إصلاح ، فقد ابتعد أهل التصوف، إلا من رحم ربنا، عن منهج القوم القائم على أحكام الشرع في السلوك والتصرفات مع إحياء أعمال القلوب من زهد وورع وخشية وتزكية وإنكار اي أمر يخالف الشرع.
الإنصاف في التعامل مع الخصم
جرت عادة العلماء المنصفين على التعامل بميزان العدل مع ما يروى عن أئمة الصوفية ومع المخالف عموما ، وعلى ما اتسمت به المدرسة السلفية من شدة وغلظة على المخالف فإن بعض علمائها أنصفوا مخالفيهم واعترفوا بما لهم من صواب مع سعة أوجه الاختلاف معهم.
ومن نماذج ذلك دفاع الشيخ بكر أبوزيد عن سيد قطب والنظر إليه بميزان العدل هو وبعض أئمة التصوف، رغم خلافه الشديد معهم.
فقد أرسل إليه احد المشايخ كتابا يطلب منه أن يقرظه والكتاب خصص للوقيعة في سيد قطب وقد اتهمه صاحب الكتاب اتهامات شنيعة جمعت أصول الكفر والإلحاد، ودافع الشيخ بكر أبو زيد في رده على هذا الشيخ عن سيد قطب ومما جاء في رده :. . . فالواجب على الجميع الدعاء له – سيد قطب- بالمغفرة والاستفادة من علمه وبيان ما تحققنا خطأه فيه وأن خطاه لا يوجب حرماننا من علمه ولا هجر كتبه .
ويشبه الشيخ بكر أبو زيد حال سيد قطب بحال بعض أقطاب التصوف فيقول: اعتبر ، رعاك الله، حاله بحال أسلاف مضوا أمثال أبي إسماعيل الهروي والجيلاني، كيف دافع عنهما شيخ الإسلام ابن تيمية مع ما لديهما من الطوام لأن الأصل في مسلكهما نصرة الإسلام والسنة، ويضيف بكر أبوزيد : أنظر منازل السائرين للهروي رحمه الله تعالى ترى عجائب لا يمكن قبولها ومع ذلك فابن القيم رحمه الله يعتذر عنه أشد الاعتذار ولا يجرمه فيها و ذلك في شرحه مدارج السالكين.
أهمية الحوار
لعلاج هذه القضايا الشائكة بين المدرستين لا مناص من تنظيم سلسلة حوارات بنيات صادقة وهذه مسؤولية الجميع وخاصة المدرسة السلفية لأن من أدبياتها المعروفة التركيز على تصنيف الآخرين واستصحاب الشك في عقائدهم فنجد عندهم انتاجا ضخما من الكتب والأبحاث والفتاوى والمحاضرات كلها تركز على عقائد الآخرين فيبدعون ويخرجون من السنة بل وربما من الملة من شاءوا.
ومن أمثلة ذلك الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة التي أصدرتها الندوة العالمية للشباب الإسلامي ومنحت بموجبها شهادات مختومة بالبدعة والشرك وربما بالكفر لمعظم فرق وطوائف المسلمين وحصرت النجاة في "أهل السنة والجماعة" بأضيق مفهوم اي السلفية.
ثم إن الجماعات التي عاثت في الأرض فسادا وتفجيرا وتدميرا وأراقت الدماء المعصومة وأشعلت الحروب والفتن بين المسلمين تتبنى الفكر السلفي، ولا نحمل هنا أوزار تلك الجماعات لكل السلفيين.
المنهج الشنقيطي
كان علماء هذه البلاد في معظمهم أشاعرة وصوفية مع وجود بعد الآراء التي خالفت ذلك، والذين تحفظوا على العقيدة الأشعرية والصوفية أو خالفوها في مسائل معينة ظلت علاقاتهم عموما طيبة مع الأشاعرة وأهل التصوف يطبعها الاحترام المتبادل أما التكفير فلم يكن في القاموس إلا ما ندر..
صنف الإمام الشيخ سيدي باب والإمام بداه البوصيري والإمام محمد سالم عدودو ضمن اعلام السلفية في بلاد شنقيط لكنهم احتفظوا بعلاقات ود ومودة مع علماء الصوفية.
فقد سئل الشيخ سيدي باب عن التيجانية فقال إنه لا يمكنه أن يتكلم فيها بسبب رجلين من المنتمين لها: محمد فال بن باب والمرابط بن أحمد فال.
أما الإمام بداه فرغم أنه ذكر انه ترك الأوراد فقد بقي على احترام علماء الصوفية وقد أثنى على الشيخ احمد التيجاني وعلى الشيخ إبراهيم نياس.
أما المرابط محمد سالم عدود فمواقفه الإيجابية من علماء الطريقة ومن المسائل الخلافية مع التصوف وأهل الطريقة معروفة.
أفلا يسع الجيل الجديد من أبناء السلفية ما وسع الأجيال السابقة، ام أن الجيل الجديد اعتنق السلفية المستوردة الناطحة؟
كما أن التواصل بين السلفية والصوفية كان قائما على في مرحلة معينة فالمجلس التأسيسي لرابطة العالم كان يرأسه الشيخ ابن باز ويضم في عضويته علماء من مذاهب وطوائف متعددة وخاصة من أهل التصوف مثل الشيخ إبراهيم نياس والشيخ محمد فال البناني.
وقد أحسنت رابطة العالم الإسلامي بإعادة الانفتاح على المذاهب والطوائف الإسلامية في ظل الرؤية الجديدة للمملكة العربية السعودية.
محاولات للحوار لم تثمر
يبدو أن منهج عدم المواجهة يمثل جزءا من قواعد التعامل مع الآخر عند السلفية.
- يقول الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي إنه التقى على هامش احد المؤتمرات مع الشيخ عبد الله بن عبد المحسن التركي وتناقشا بشأن ما تعانيه الأمة من خلافات واتفقا على تنظيم جلسات حوارية يحضرها عشرون عالما : عشرة من السعودية وعشرة من بقية الدول العربية ، ويضيف الشيخ البوطي أنه أرسل عشرة أسماء وانتظر عدة سنوات ولم يتسلم أي رد وأنه فهم أن الشيخ عبد الله التركي بذل ما في وسعه لاختيار علماء من المملكة لكنهم كانوا يفرون من المواجهة والنقاش في هذه المسائل على حسب تعبيره.
- مقابلة مفتى عمان مع الشيخ ابن باز في الثمانينات حيث تناقشا خلالها حول بعض المسائل الخلافية وطلب مفتي عمان من الشيخ ابن باز تنظيم حوار علني ينقل عبر الإذاعة والتلفزيون لكن الشيخ ابن باز لم يقبل.
وأذكر اني زرت الرياض في مهمة عمل قبل سنوات وطلبت من أحد الإخوة الأفاضل أن يذهب بي إلى الشيخ الكلباني لأطرح عليه بعض المسائل الخلافية بين المدارس الإسلامية. صلينا المغرب في مسجده وبعد الصلاة توجهت إليه وذكرت له أني أريد أن اكلمه في بعض الخلافات بين المسلمين فرحب ودخل بي إلى غرفة بجانب المحراب وحضر معنا مدير مكتبه فقلت له إن المسلمين يعانون من الفرقة والتشتت وأنه هو وأمثاله من الدعاة عليهم مسؤولية جمع كلمة المسلمين والتحذير من التكفير على وجه الخصوص ، فعبر عن تفهمه وقال لي إنه يكتب مقالا أسبوعيا في جريدة الرياض حول هذه المسائل واعترف بأن السلفيين عندهم مشكلة تواصل مع الآخر.
وفي مناسبة أخرى ناقشت مع احد الأئمة موضوع المولد وقلت له إن خطب الجمعة في بداية شهر ربيع الأول يتكرر فيها الحديث عن "بدعة" الاحتفال بالمولد بطريقة لا تفيد كثيرا: هذا لم يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة رضوان الله عليهم وإنما أحدثه العبيديون، وقلت له إن جماعة المصلين تنقسم إلى فئتين: فئة معك ولا جديد عليها في كلامك وفئة ستحتفل بالمولد ولن يؤثر فيها تبديعك لها، ودعوته إلى تغيير المنهج وأن يتحاور المشايخ المانعون مع المشايخ المجيزين بشكل مباشر تلمسا لنتيجة مفيدة. فقال لي: إن مشايخنا لا يحبون الجدال وذكر أن الشيخ ابن عثيمين كان يلقي درسا في الحرم فكلمه أحدهم عن وجود رجل يدعي النبوة فأكمل الشيخ الدرس بسرعة وخرج لأنه لا يريد الدخول في نقاش وجدال.
ومع كل هذا تشتغل المدرسة السلفية بتصنيف المسلمين وتمارس وصاية عليهم.
كيف نضيق هذه الهوة السحيقة؟
يتضح من النقاط الخلافية الجوهرية بين المدرستين أن الهوة سحقية وتصل أحيانا درجة تحويل الصراع الى صراع بين إيمان وكفر أو ضلال وهداية وإن تدخل العقلاء وأبعدوا المتطرفين من الجانبين فسيجدون أن المعركة ليست صفرية وليست بين الكفر والإسلام.
فما يجمع أكثر مما يفرق، والخلاف ليس حوا قطعيات الدين بل هو دون ذلك وهو في جوانب منه خلاف لفظي.
ولمعالجة هذه الخلافات أقترح ما يلي :
- تشكيل فريق عمل يمثل فيه الطرفان مع طرف محايد لتسهيل التواصل
- إشراف رابطة العلماء الموريتانيين على الموضوع
- حصر المسائل الخلافية الجوهرية ودراستها بطريقة ترفع اللبس قدر الإمكان
- الاتفاق على استنكار ما تستنكره الشريعة
- دراسة مصطلحات القوم بحسن ظن والتماس أحسن المخارج على ضوء أقوال العلماء السابقين.
- تشجيع التناصح الناعم المثمر وتجريم التسجيلات والكتابات التي تدعو إلى التكفير وتبث الفتنة وتزيد الفرقة بين المسلمين.
- بعد هذا الجهد التحضيري، تنظيم مؤتمر جامع موسع للاتفاق على طريقة إدارة الخلاف بشكل إيجابي.
نحتاج إلى انضباط السلفية الناضجة في اتباع أحكام الشريعة كما نحتاج إلى روحانية التصوف ورقة اهله وحسن ظنهم.
وبغض النظر عن موقف السلفية "الأصلية" من الحوار فما يهمنا هو بلدنا فلنحيي فيه منهج التعايش السلمي كما كان عند أسلافنا ، بعيدا عن نطح السلفية وشطح الصوفية. كفانا مواجهة ومغالبة.
ومع هذه الفجوة الكبيرة بين المدرستين نجد أحيانا أصواتا متفائلة على شاكلة ما ورد في مقال الكاتب عمر جركس :
"السلفية الربانية والصوفية الربانية
خلاصة ما انتهيت إليه في بحثي عن معنى السلفية والصوفية أن كل صوفي رباني هو سلفي في طبيعة الحال والعكس صحيح. إن كل سلفي رباني هو صوفيٌّ في طبيعة الحال. ولا بد للسلفي من صوفية وروحانية ترقق قلبه وتستدعي في وجدانه أجمل مشاعر الحضور والخشوع والتذلل والحب الإلهي. ولا بد للصوفي من سلفية تضبط روحانيته بالنصوص الصحيحة الصافية المنقاة من أي شبهة.
فالسلفية شرط للصوفية الربانية، والصوفية شرط للسلفية الربانية". (2)
الهادي بن محمد المختار النحوي
الهوامش:
1- راجع مقدمة الشيخ محمد سعيد البوطي لكتاب / رسالة الشيخ يوسف الرفاعي : نصيحة لإخواننا علماء نجد.
2 - مقال منشور في الجزيرة نت ٢٠٢١
اللهم الطف بأهلنا في غزة وانصرهم
اللهم ارفع عنا البلاء والوباء
رب اغفر لي ولوالدي ولوالديهم ولجميع المسلمين
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا وحبيبنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين