قد لا يدرك الكثير من متابعي الشأن العام أهمية تحقيق تناوب آمن على السلطة في بلد كبلدنا، والذي يوجد في منطقة تعاني بعض دولها من عدم استقرار سياسي وأمني يشتد خطورة وتعقيدا مع كل عملية انتقال للسلطة من رئيس إلى آخر. ولعدم إدراك الكثيرين لأهمية التناوب الآمن على السلطة، فقد غاب الحديث عنه في أغلب الكتابات والنقاشات التي تحدثت سلبا أو إيجابا عن حصيلة السنة الأولى من حكم الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني.
ونظرا لغياب الحديث عن التناوب الآمن في جل الكتابات والنقاشات التي نتابعها في أيامنا هذه، فقد ارتأيت أن أخصص هذا المقال المطول للحديث عن التناوب الآمن الذي شهدته بلادنا خلال السنة الماضية، ولن أتوقف بطبيعة الحال عند لحظة حدوث ذلك التناوب كما يفعل الكثيرون، بل إني سأتحدث وبإسهاب عن فترة "التمهيد الآمن للتناوب"، وهي الفترة التي سبقت اللحظة الفعلية لحدوث التناوب، كما أني سأتحدث أيضا، وبإسهاب عن فترة تأمين أو تثبيت أو حماية عملية التناوب السلمي على السلطة، وفي اعتقادي الشخصي فإن فترة حماية هذا التناوب قد امتدت لعام كامل.
أولا / فترة التمهيد الآمن للتناوب
لم تكن عملية التمهيد الآمن للتناوب السلمي على السلطة عملية سهلة، ذلك أن الرئيس السابق لم يكن يريد الخروج من السلطة، بل إنه فكر بجد في بعض فترات حكمه بمأمورية ثالثة.
هذه المرحلة التمهيدية تطلبت توفر شرطين أساسيين:
أولهما : إقناع الرئيس السابق بضرورة التخلي عن التفكير في المأمورية الثالثة، أو إجباره على ذلك، وقد تحقق هذا الشرط وبشكل نهائي مع البيان الرئاسي الموقف لمبادرة النواب الساعية للتمديد، وهو البيان الذي صدر في منتصف يناير من العام 2019.
ثانيهما: ترك الأمل لدى الرئيس السابق بأنه حتى وإن ترك السلطة فإن تأثيره سيبقى حاضرا في تسيير شؤون البلاد.
الإيهام بإمكانية تحقق هذا الشرط الأخير هو الذي حمى من القيام بإجراءات مربكة لمسار التناوب على السلطة، وهو الذي جعل الرئيس السابق يتصرف في أشهره الأخيرة من الحكم وكأنه باق في السلطة، ولو أنه كان قد اقتنع بعكس ذلك لتصرف بطريقة أخرى قد تدخل البلاد في منزلق خطير ، وقد كان يملك من القوة والنفوذ في تلك الفترة ما يكفي لإدخال البلاد في ذلك المنزلق الخطير.
لم تكن عملية إقناع أو إجبار الرئيس السابق بالاكتفاء بمأموريتين اثنتين فقط عملية سهلة، وكان لابد من إيهامه بأنه سيبقى في السلطة من خلال بوابة الحزب، حتى يقبل بالخروج منها دون أن يجر البلاد إلى منزلقات خطيرة.
كان الرئيس السابق على قناعة تامة بأنه باق في السلطة حتى من بعد خروجه منها، ولذا فلم يتصرف في أشهره الأخيرة تصرف المودع المغادر، وإنما تَصَرف تَصُرف من هو على قناعة تامة بأنه باق في السلطة، ولو أنه تَصَرف تَصُرف المودع المغادر لعمل في أشهره الأخيرة على :
1ـ تهدئة الأوضاع وخلق جو تصالحي مع الجميع، وخاصة مع المعارضة
2ـ إنهاء بعض الخصومات الشخصية، وخاصة منها تلك المتعلقة بخصومات مع بعض رجال الأعمال
3ـ الأخذ بالشفافية في تسيير المال العام خلال الأشهر الأخيرة على الأقل، مع محاولة تصحيح ما يمكن تصحيحه من اختلالات سابقة في هذا المجال.
على العكس من ذلك، فسنجد بأن الرئيس السابق قد حرص في أشهره الأخيرة على أن يعمق من حجم خلافاته مع المعارضة، وأن يُعَقد ملف رجال الأعمال أكثر، وأن يزيد من حجم الخروقات في تسييره للمال العام.
كان الرئيس السابق على قناعة تامة بأنه باق في السلطة، وذلك من خلال بوابة حزب الاتحاد من أجل الجمهورية، الذي انعقد مؤتمره الثاني بعد يوم واحد من إعلان ترشح الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، وقد أصر الرئيس السابق أن يبقى الحزب بدون هيئات منتخبة أو معينة، وتم اختيار لجنة تسيير مؤقتة تتولى تسيير الحزب في انتظار خروجه من السلطة وتهيئة الظروف المناسبة لتوليه رئاسة الحزب.
كما تم الحديث في تلك الفترة عن مقترح فُصِّل على مقاس الرئيس السابق من بعد خروجه من السلطة وترؤسه للحزب، وكان هذا المقترح سيقدم لمؤتمر الحزب القادم، ويتمثل في تشكيل مجلس رئاسي برئاسة رئيس الحزب وبعضوية رئيس البرلمان والوزير الأول والأمينين التنفيذيين للشؤون السياسة والعمليات الانتخابية.
يعني هذا المجلس الرئاسي أن الرئيس السابق للجمهورية رئيس الحزب لاحقا سيبقى فاعلا في السلطة من خلال هذا المجلس الرئاسي الذي يترأسه، والذي يضم رئيس البرلمان (صديقه السابق)، والوزير الأول القادم، وقد راج بأن الرئيس السابق كان يفكر في وزير أول مقرب منه، وكان يسعى لفرضه من خلال جر المرشح محمد ولد الشيخ الغزواني إلى شوط ثان، وهو ما كانت ستنتج عنه تحالفات انتخابية بشروط. ولعلكم تذكرون التسريبات التي حاولت أن تسيء إلى المرشح محمد ولد الشيخ الغزواني، والتي يمكن توقع مصدرها، ولعلكم تذكرون أيضا كيف تم التلاعب بموارد حملته الانتخابية.
بعد الفشل في جر المرشح محمد ولد الشيخ الغزواني إلى شوط ثان تم اللجوء إلى المرشح بيرام صاحب الرتبة الثانية في الانتخابات، وهكذا فوجئ الرأي العام بمحاولة لإبرام اتفاق في الوقت بدل الضائع بين النظام المنصرف والمرشح الفائز بالرتبة الثانية، ولقد بذل رئيس اللجنة المؤقتة لتسيير الحزب جهدا كبيرا من أجل أبرام ذلك الاتفاق، ولكن تدخلا في اللحظات الأخيرة يشبه تماما التدخل الذي أوقف مبادرة النواب المطالبة بالتمديد أفشل ذلك الاتفاق من قبل توقيعه.
وبالعودة إلى مبادرة النواب المطالبة بالتمديد فستجدون بأن الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني وزير الدفاع حينها، والذي عمل ـ بالفعل ـ على إجهاض هذه المبادرة، لم يظهر علنا أي معارضة لها، بل ـ على العكس من ذلك ـ فقد ظهرت أسماء بعض النواب المحسوبين عليه ضمن لائحة النواب المطالبة بالتمديد.
إن القراءة التحليلية المعمقة لما جرى خلال الأشهر التي سبقت انتخابات 2019 الرئاسية ستجعلنا نخرج بخلاصة مفادها أن هناك عملا كبيرا قد قيم به، وكان من نتائجه :
1 ـ إقناع أو إجبار الرئيس السابق على التخلي عن فكرة المأمورية الثالثة (لا أدري أي الكلمتين أنسب: الإقناع أو الإجبار).
2 ـ ترك الرئيس السابق يتخيل ما شاء له أن يتخيل من نفوذ وتحكم في السلطة من بعد خروجه منها، ولو أن الرئيس السابق تخيل ـ ولو للحظة واحدة ـ بأنه سيبعد عن السلطة وشؤون الحكم من بعد خروجه من الرئاسة لما قبل أصلا بالخروج منها، وكان لديه في تلك الفترة ما يمكنه من فرض بقائه في السلطة ولو إلى حين، وكان بإمكانه ـ على الأقل ـ أن يجعل لخروجه من السلطة كلفة كبيرة وثقيلة جدا، قد تدخل موريتانيا في منزلقات خطيرة.
بكلمة واحدة لقد شهدت الأشهر الأخيرة من حكم الرئيس السابق عملا احترافيا هاما، مهد ـ وبشكل جيد ـ لعملية التناوب الآمن التي سنعيشها فيما بعد.
ثانيا/ فترة تثبيت أو حماية التناوب الآمن على السلطة
لم تعد قدرة الرئيس السابق على إرباك المشهد من بعد خروجه من السلطة يوم التنصيب، مثلما كانت عليه من قبل التنصيب، ولكن ذلك لا يعني بأنه لم يعد قادرا على إرباك المشهد، على الأقل خلال الأسابيع والأشهر الأولى التي أعقبت خروجه من السلطة.
كان لابد من التعامل معه في الأشهر الأولى بحذر شديد، ولذا فقد ضمت الحكومة عددا من الوزراء المقربين منه، كما أنها ضمت ـ في المقابل ـ شخصيات قد يعتبر تعيينهم غير ودي، كما هو الحال بالنسبة للوزير الأول ووزير الدفاع ومدير الديوان.
خلال الأشهر الأولى التي أعقبت التنصيب تمت إثارة قضية مرجعية حزب الاتحاد من أجل الجمهورية، وكان الرئيس السابق يعول على بوابة الحزب للبقاء في السلطة، ولذا فقد عاد مسرعا عندما بدأ الحديث عن المرجعية. لا أدري إن كان الرئيس السابق قد تم استدراجه للعودة، أو أنه هو من اتخذ قرار العودة بعد شعوره بأن البساط قد بدأ يسحب من تحت رجليه، وبأنه لابد من المخاطرة والعودة إلى البلاد للدفاع عن الحزب الذي كان يخطط لاستخدامه في التأثير على السلطة من بعد خروجه منها.
انتهت معركة المرجعية بخسارة سياسية كبيرة للرئيس السابق، فقد خرج من تلك المعركة وحيدا، هذا إذا ما استثنينا بعض الدعم الذي لا يقدم ولا يؤخر جاء من الرئيس السابق للجنة تسيير الحزب ونائبه في تلك اللجنة.
تم تفادي توسيع دائرة الصراع في تلك الفترة، وتم تجنب سقوط ضحايا آخرين في معركة الحزب، وذلك خوفا من أن ينضموا إلى جبهة الرئيس السابق فيشكلوا بذلك كتلة سياسية تعارض النظام الجديد من داخل رحم الأغلبية. كانت المعركة في تلك الفترة تهدف إلى عزل الرئيس السابق عن محيطه السياسي، وحرمانه ـ بالتالي ـ من أي دعم سياسي داخل الأغلبية، هكذا بدت لي الأمور من وجهة نظر تحليلية بحتة، وكل ما تحدثتُ عنه في هذا المقام لا يعتمد على معلومات، وإنما يعتمد فقط على قراءة تحليلية للأحداث، قد تصيب وقد تخطئ، ولكنها في كل الأحوال ستبقى متماسكة من الناحية المنطقية البحتة.
غاب الرئيس السابق عن الاحتفالات المخلدة للذكرى التاسعة والخمسين لعيد الاستقلال الوطني، وتم الحديث عن إحباط "محاولة ما " كان الرئيس السابق يخطط لها بالتنسيق مع بعض العناصر من الحرس الرئاسي، وبهذه المحاولة يكون الرئيس السابق قد وضع نفسه تحت رقابية أمنية مشددة، ذلك هو ما يقوله منطق الأمور.
اتسمت فترة حماية وتأمين التناوب السلمي على السلطة، والتي امتدت حسب وجهة نظري الخاصة لعام كامل، اتسمت هذه الفترة بعدة مظاهر لعل من أهمها:
1 ـ التهدئة والانفتاح على المعارضة
2 ـ العمل على عزل الرئيس السابق سياسيا، وفصله بشكل كامل عن الأغلبية
3 ـ تحويل الصراع من صراع سياسي داخل الأغلبية إلى صراع أوسع تشارك فيه المعارضة وكل الشعب الموريتاني.
لم يعد الصراع صراعا سياسيا، وذلك بعد أن تم تشكيل لجنة تحقيق برلمانية، ووفرت لها الظروف المناسبة لإعداد تقريرها، وتمت المصادقة على هذا التقرير من طرف البرلمان الذي أحاله إلى وزير العدل.
هكذا سارت الأمور في أول عام من مأمورية الرئيس محمد الشيخ ولد الغزواني، وهكذا ومع أول ذكرى للتنصيب، سيجد الرئيس السابق نفسه رفقة بعض معاونيه أمام القضاء، وأمام تهم وشبهات تتعلق بالفساد، وبذلك ستبدأ قصة أخرى.
يبقى أن أشير في خاتمة هذه الفقرة إلى أن هناك عوامل عديدة ـ بعضها شخصي ـ ساعدت الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني في أن يؤمن عملية التناوب على السلطة، وأن يحميها من أي هزات متوقعة. ويُخيَّل إلي بأنه لو نجح مرشح آخر وخلف الرئيس محمد ولد عبد العزيز الذي كان يفكر بجد في البقاء في السلطة حتى من بعد خروجه منها، لما استطاع ذلك المرشح الفائز أن يؤمن عملية التناوب وأن يحميها من الهزات المتوقعة.
إن من أهم العوامل والصفات الشخصية التي ساعدت الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني في تأمين عملية التناوب:
1 ـ أنه رجل المؤسسة العسكرية الذي تثق به، ولذا فلم يجد الرئيس السابق أي ثغرة داخل هذه المؤسسة تمكنه من تهديد عملية التناوب، أو حتى التأثير عليها.
2 ـ أنه رجل مخابرات وسبق أن تولى إدارة الأمن في المرحلة الانتقالية الأولى
3 ـ أنه يعرف جيدا الرئيس السابق من خلال صحبة استمرت لعقود من الزمن
4 ـ أنه تمكن من تجنب الدخول في أي صدامات أو صراعات سياسية رغم وجوده في كل الأنظمة التي حكمت البلاد خلال الخمسة عشرة سنة الأخيرة، الشيء الذي جعله قادرا على فتح صفحة جديدة مع المعارضة من بعد وصوله إلى الحكم
5 ـ تمتعه بعلاقات خارجية قوية مع الدول ذات التأثير في المنطقة.
ثالثا / ماذا بعد عام التناوب الآمن على السلطة؟
إني من الذين يرون بأن تأمين التناوب على السلطة هو أمر في غاية الأهمية، وهو يحتاج إلى وقت، ولذا فتخصيص عام تخلله وباء كورونا لتأمين هذا التناوب لم يكن تضييعا للوقت، ولكن بعد انقضاء هذا العام، فإنه من حقنا أن نطرح السؤال : وماذا بعد عام التناوب الآمن على السلطة؟
الجواب الفوري على هذا السؤال هو أنه قد آن الأوان للبدء في إصلاح آمن، فما بعد التناوب الآمن إلا الإصلاح الآمن، ولا إصلاح من غير حرب جدية على الفساد، ولا بأس بالتدرج في هذه الحرب لتأمينها هي أيضا، ولكن هناك خطوات عاجلة قد أصبح من الضروري اتخاذها من بعد صدور تقرير اللجنة البرلمانية :
1 ـ إبعاد كل الأسماء التي تدور حولها شبهات في هذا التقرير عن الواجهة الحكومية والسياسية للنظام
2 ـ التوقف عن تعيين أو ترقية أي موظف تدور حوله شبهة فساد
3 ـ الاستعداد لفتح ملفات فساد أخرى إذا ما توفرت الظروف المناسبة لذلك
4 ـ تغليظ العقوبة وتشديدها على كل من يمارس فسادا بعد صدور تقرير اللجنة البرلمانية.
ختاما / إن كسب الحرب على الفساد سيعني أننا نسير بخطوات ثابتة في اتجاه الإصلاح، وإن خسارة هذه الحرب لا قدر الله، سيعني بأنه لا أمل في الإصلاح، ومن هنا تكسب الحرب على الفساد أهمية قصوى في تحديد اتجاه بوصلة الإصلاح.
حفظ الله موريتانيا...
محمد الأمين ولد الفاضل