لعل أحد أهم محاور النقاش على جدول أعمال القمة الحالية لمجموعة دول الساحل في انواكشوط، يتعلق بتقييم أداء المنظمة، وجرد مستوى تقدم المشاريع مع شركائها الدوليين، حسب ما تم الإتفاق عليه في القمة المشتركة التي عقدت في 13 يناير 2020 في مدينة "بو" الفرنسية.
لكن ما يهُمني في هذا المقام هو إثارة جانب من الملف غير مطروق حتى الآن، يتعلق بالأهمية الإستراتيجية للموروث الثقافي في منطقة الساحل، سواء في سياق الصراع أو في سياق التعاون، وكيف تتجلى تلك الأهمية الإستراتيجية للثقافة، عندما تحرص فرنسا اليوم، وهي المستعمر السابق لبلدان الساحل الخمس، على استنفار المنظمة الدولية للفرانكفونية، من خلال الحضور الشخصي للسيدة المديرة العامة لتلك المنظمة، صديقتي لويز موشيكيوابو، وزيرة الخارجية الرواندية السابقة، في قمة أنواكشوط، وقيامها بالتوقيع مع الأمين التنفيذي لمجموعة دول الساحل على اتفاق تعاون، تقوم المنظمة الفرانكفونية بمقتضاه بإنشاء محطة إذاعة دولية موجهة للشباب في فضاء الساحل، تبث باللغة الفرنسية أساسا، إضافة إلى بعض اللغات المحلية.. وهي إشارة واضحة بأن مفهوم الساحل الذي تريده فرنسا إنما هو فضاء تهيمن عليه الفرانكفونية بامتياز، بينما المنطقة هي أحوج ما تكون إلى الإستثمار في خلق مناخ ثقافي متصالح مع المعطيات السوسيولوجية والحضارية لسكان الساحل، وهو مناخ شديد الإرتباط تاريخيا بالدين الإسلامي وباللغة العربية..
لقد سبق أن أعطى الرئيس ماكرون "إشارات ثقافية" واضحة منذ اجتماعه الأول مع زعماء دول الساحل الخمس في قمة بو، حيث تكتسي تلك المدينة الصغيرة أبعادا ثقافية وتاريخية.. لا أدري هل فُهمت جيدا على مستوى بلدان الساحل أم أنها مرت مرور الكرام...
فمدينة " بو"، التي تُنطق "باو" باللغة المحلية للإقليم، وهي البيارنيه béarnais التي هي لغة قديمة من بقايا لغات الشعوب المحلية غير الفرنسية، تعود في أصولها إلى لغة صاغها "الطروبادور" Troubadour وهم شعراء من أصول أندلسيّة، عاشوا بين القرنين الحادي عشر والثالث عشر الميلادي، حيث تشتق تسميتهم من كلمتين عربيّتين هما "طرب" و"دور"، إذ كان أولئك الشعراء يدورون من قصرٍ إلى آخر، ومن مدينة إلى أخرى، لإلقاء قصائدهم وتأدية عروضهم الغنائية أمام الملوك والسلاطين في ربوع أوروبا..
وقد ألَّف "الطروبادور" ونظموا أقدم شعرٍ غنائيّ عرفته أوروبا، وكان نوعا من "ازريكَة" مزيجا من اللغة العربية واللهجات المحلية، متأثرا بأسلوب الموشَّحات الأندلسية. وقد تأسست على أنقاض لغتهم أغلبية اللغات المعروفة اليوم في دول أوروبا الغربية بـ البروفنسيال أو Provençal .
بقيت لغة Béarnais هي اللغة الرسمية لإمارة مستقلة تحمل نفس الإسم، و"بو" هي عاصمتها، أسسها في القرن الرابع عشر، غاستون الثالث البنيارني الملقب فيبوس Fébus هو أمير وشاعر من شعب بنييارني؛ التي ربما تشتق من بني يارني Benearni أو بني هرنوم ،Beneharnum حتى حدود القرن 19، عندما دخلت المدرسة الفرنسية في صراع مباشر ضد استخدام اللغات الإقليمية، مما تسبب في انحسار التواصل باللغة البيرنية في المجال العام، وبقاءها في المحيط الأسري فقط إلى حدود سنة 1950.. لكن وعي ونضال السكان المحليين فرض على الحكومة الفرنسية المركزية إنشاء أول مدرسة تدرس بهذه اللغة في مدينة "باو" ابتداء من سنة 1980.
ولئن تميزت مدينة "بو" الصغيرة والجميلة، بجبالها الشاهقة وأنهارها الجارية، لكنها مع ذلك، تبقى المدينة الفرنسية الأكثر "ساحلية" بحكم قربها الشديد من الحدود في الجنوب-الغربي بين فرنسا وإسبانيا، وهي على مسافة قريبة من سفوح جبال البيرينيه Pyrénées بما تمثله من دلالات تاريخية، ثقافية وعسكرية مشحونة بين الفاتحين المسلمين وشعوب المنطقة..
في هذا السياق، يجدر بالرئاسة الموريتانية لمنظمة دول الساحل الخمس أن تطالب فرنسا والدول الأوروبية الأخرى، خاصة إسبانيا، بإعادة تقييم بشكل موضوعي ومنطقي للوضع الثقافي واللغوي في منطقة الساحل الإفريقي حسب المتغيرات الجديدة..
في الماضي، عرفت منطقة الساحل فترات هامة من تاريخها، عاشت فيها ممالكها وإماراتها وسلطناتها القديمة مستوى كبيرا من الإستقرار السياسي والرخاء الإقتصادي بسبب اعتماد اقتصادياتها على ثروة الذهب وعلى تجارة القوافل، كما أرسلت مدنها وحواضرها الثقافية والتجارية القديمة، الإشعاع الثقافي والحضاري عبر المنطقة والعالم، بل ووصل نفوذها السياسي والعسكري الشاطئ الآخر للبحر الأبيض المتوسط.. وكان العنصر الحاسم في كل تلك التطورات هو العامل الروحي والثقافي من خلال ازدهار الحضارة الإسلامية واللغة العربية..
علينا أن نشرح لأصدقائنا الفرنسيين والأوروبيين، بأن لا سبيل لإخراج فضاء الساحل من نكبته الحالية إلا من خلال تنمية ثقافية مكثفة، تتيح لسكان المنطقة تعلما جيدا باللغة العربية، يمكنهم من فهم واستيعاب التعاليم الإسلامية الصحيحة، البعيدة كل البعد عن العنف، والقهر والكراهية والإرهاب، والاستغلال..
وفي هذا الصدد، يمكن لموريتانيا أن تقدم للعالم وللمنطقة مقاربة ثقافية، تقوم على أن العلاج المتكامل لتداعيات الأوضاع المتفاقمة في منطقة الساحل الصحراوي، بفعل استمرار سوء الحكامة والتخلف والفقر، والتطرف والإرهاب، يمر حتما بالتنمية الثقافية من خلال التركيز على تعميم وتكثيف تدريس اللغة العربية، تماما كما يمر بإقامة التنمية المستدامة وتعزيز القدرات الدفاعية والأمنية.. وبالتالي، وبهذا المعنى، يكون من الأولى بالنسبة لفرنسا، ولأصدقائنا الأوروبيين أن يدعموا المشروع الثقافي الموريتاني بدل الإستمرار في محاولة فرض صراع ثقافي وحضاري في منطقة الساحل، تحت لافتة نشر الفرانكفونية، ليس من شأنه أن يفيد المنطقة كثيرا، لأنه بكل بساطة أصبح متجاوزا، وهو يسير في الإتجاه المضاد للمنطق وللتاريخ، خاصة إذا تذكرنا بأن قمة "بو" نفسها، قد جاءت على خلفية تململ شعبي عارم خرج إلى الشارع ضد التواجد العسكري الفرنسي في بعض بلدان دول الساحل الخمس..
ولن يجد العالم وسيلة أكثر فاعلية لمواجهة دعاية الإتجاهات التكفيرية في منطقة الساحل، لجذب الشباب وإقناعهم بخطاب ناري ضد الغرب باعتباره غازيا "كافرا" يسعى لفرض هيمنته الاستعمارية، و وضع اليد على ثروات الشعوب و مسخ هويتها وتسفيه معتقداتها الدينية من خلال الحملات التبشيرية، أفضل من دعم التعليم باللغة العربية ونشر تعاليم الإسلام الوسطي في بلدان المنطقة، لأن ذلك سيمثل خيارا استراتيجيا ناجعا، حتى ولو لم يكن الخيار المفضل لدى البعض.. كما أنه سيشكل مجالا خصبا للتعاون الدولي يمكن أن يسهم فيه الموريتانيون والعرب بمصادرهم البشرية والمالية، إلى جانب بقية الشركاء الدوليين..
كل هذه المواضيع وغيرها، يمكن أن يجري تداولها و نقاشها في قمة قادمة لمجموعة دول الساحل الخمس وشركائهم الأوروبيين، تعقد مستقبلا في موريتانيا، بمدينة آزوكي التاريخية، مهد المرابطين وقنطرة التواصل الأولى مع الأندلس، من خلال فكر الإمام الحضرمي، صاحب كتاب "الإشارة في تدبير الإمارة"، خاصة وأن بلدة آزوكي كانت تاريخيا قلعة عسكرية حصينة لجيوش الدولة المُرابطية، تحتمي وسط الجبال الشاهقة، وهي تشكل اليوم وجهة سياحية واعدة من خلال ما تتمتع به من مناظر طبيعية خلابة، لا تقل أهمية ورمزية بالنسبة لنا عن مدينة "بو" الفرنسية.
محمد السالك ولد إبراهيم