لم تكن حرب حزيران التي لطف نتائجها المفكر المصري محمد حسنين هيكل بعبارة "النكسة" وأطلقت عليها إسرائيل اسم "حرب الأيام الستة"، مجرد خسارة معركة حربية بل كانت تدشن لسلسلة من الهزائم تمتد وتتوسع وتتراكم وتتداخل، ويتضح ذلك جليا من خلال آثارها الخطيرة التي شكلت سلاسل متشابكة يولد بعضها بعضا، هذا إذا استثنينا حرب العاشر من رمضان التي بدأت بانتصار وحولها الساسة إلى هزيمة.
ولعل أخطر نتائج هذه الهزيمة هو عدم دراستها بما فيه الكفاية وعدم أخذ الدروس والعبر منها لمحاولة إصلاح ما فسد وتسديد ما اختل وتقويم ما اعوج وبناء ما هدم.
وهناك مظهر آخر لهذه الهزيمة لا يقل خطورة ألا وهو الهزيمة النفسية التي أصابت الأمة فزرعت اليأس والقنوط.
سنحاول من خلال هذه السلسلة، ونحن نمر بذكرى هزيمة يونيو 1967، التوقف، بموضوعية قدر الإمكان، عند أسباب هذه الهزيمة، التي قلبت موازين واتجاهات الصراع لنبين كيف كانت تبعاتها تتكاثر وتتشعب وكيف أصبح ارتكاس الأمة وانتكاسها وفقدانها للمبادرة يتسع سنة بعد أخرى بل يوما بعديوم، حتى طالت الهزيمة قاموس خطاب الصراع ومصطلحاته.
كانت المؤشرات والظروف قبل حرب حزيران تدل على أن العرب سيكسبون الحرب أو على الأقل لن يخسروها على النحو الذي حصل فعبد الناصر كان في عنفوان قوته ومركزه القيادي كما أن وجود كتلتين متوازيتين (الكتلة الشرقية والكتلة الغربية) كان يضمن نوعا من التوازن بين العرب وإسرائيل أما من حيث الجيش والعتاد فإن الدول العربية مجتمعة كانت تتفوق على إسرائيل أو على الأقل تتكافأ معها إلا إذا استثنينا التفوق النوعي النسبي لسلاح الجو الإسرائيلي.
كما أن تصريحات عبد الناصر النارية وطلبه سحب قوات الأمم المتحدة من سيناء وفي المقابل تهديدات إسرائيل باستخدام القوة للانتقام من العمليات الفدائية كل ذلك يبعد مسألة المباغتة.
لكن الذي حصل كان مفاجئا للجميع حتى لإسرائيل نفسها فكانت نتائج الحرب كارثة بأبعد معاني الكلمة ، حيث دمر سلاح الجو المصري خلال الساعات الأولى من صباح الخامس من حزيران واحتلت سيناء بأكملها واحتل قطاع غزة الذي كان تحت الإدارة المصرية أما الجيش المصري الذي كان في سينا فكان مصير معظم أفراده القتل بقصف الطائرات الإسرائيلية أو الأسر والقتل من قبل الجنود الإسرائيليين بدم بارد أو الموت عطشا وجوعا في صحراء سيناء ولم ينج سوى الكتيبة التي كان يقودها القائد التاريخي البطل الفريق سعد الدين الشاذلي الذي أبدع في طريقة التحايل على الجيش الإسرائيلي فتوجه بجنوده إلى فلسطين بدل الاتجاه غربا وصار يتحرك بكتيبته ليلا تحت جنح الظلام حتى لا تكتشفه الطائرات الإسرائيلية وكانت خسائره محدودة مع صعوبة الظروف وانقطاع الاتصال مع القيادة.
أما في سوريا فقد أصاب الجيش ما أصابه من تدمير واحتلت الجولان وأصاب الأردن نصيبه من الهزيمة والخسائر واحتلت الضفة الغربية وهكذا هزمت جيوش هذه الدول العربية مجتمعة في 6 أيام واستشهد ما بين 15-25 ألفعربي مقابل حوالي 900 فرد من الإسرائيليين.
وفي التفاصيل فقدت مصر ما بين 9-15 ألف جندي مع أسر أكثر من أربعة آلاف عسكري وفقدت الأردن حوالي 6 آلاف جندي وبلغ عدد أسراها 533 جنديا أما سوريا ففقدت حوالي ألف عسكري وبلغ عدد الجرحى 2500والأسرى 367.
نقل أمين هويدي عن كتاب الفريق أول محمد فوزي، وزير الحربية المصري الأسبق، أن الخسائر كانت بنسبة 85% في سلاح القوات البرية، وكانت خسائر القوات الجوية من القاذفات الثقيلة أو الخفيفة 100%، و87% من المقاتلات القاذفة، كما اتضح بعد المعركة أن عدد الدبابات مائتا دبابة تقريبًا دمر منها 12 دبابة وتركت 188 دبابة للعدو. كما دمرت 32 طائرة سوريّة وسجلت نسبة استنزاف كبيرة في المعدات، أما في الأردن فقد بلغ عدد الطائرات المدمرة 22 طائرة، كما فقد العراق جزءً من سلاحه الجوي بعد أن هاجمت إسرائيل قاعدة جوية في الأنبار، وحسب بعض التحليلات فإن نسب الاستنزاف في المعدات العربيّة وصلت ما بين 70 - 80% من مجمل طاقتها.
هذا فضلا عن تشريد حوالي 300 ألف لاجئ.
وقدرت المساحة الإجمالية التي احتلتها إسرائيل خلال أيام قليلة بحولي 70 ألف كلم مربع أي أكثر من ضعفي مساحة فلسطين التاريخية.
ومع أن هذه الأرقام مؤلمة ومخيفة سواء ما يتعلق بعدد الشهداء أو الجرحى أو الأسرى أو الخسائر في العتاد والسلاح وفقدان الأرض فإن الأمر لم يكن سوى محطة أولية لسلسة هزائم لا تنتهي إحداها إلا لتبدأ أخرى تجعل التي قبلهامجرد نزهة.
ولكن لا بد هنا من إثارة جملة أسئلة من قبيل لماذا لم تكن الطائرات المصرية محمية في الأرض وهل يعني تدميرها بتلك السهولة أنها كنت كلها في سيناء وإذا كان الأمر كذلك فلماذا لم تفكر القيادة المصرية وهي تواجه عدوا لا يرحم لماذا لم تفكر في توزيع الطائرات في مناطق متعددة من مصر التي تتمتع بمساحة جغرافية شاسعة فتصعب على الإسرائيليين مهمة التدمير وتبقي على احتياطي من سلاح الجو يمكنه أن يشكل غطاء وحماية للقوات البرية التي وقعت فريسة سهلة للإسرائيليين بعد تدمير وتحييد سلاح الجوي المصري؟
وحتى نقرب حجم هذه الهزيمة دعونا نقارن عدد السكان بين الطرفين: فسكان مصر سنة 1967 كانوا في حدود 32 مليون نسمة وإذا أضفنا سكان سوريا والأردن وفلسطين فإن العدد لن يقل عن 40 مليون مقابل سكان إسرائيل الذين لن يتجاوز عددهم على اقصى تقدير 3 مليون نسمة في تلك السنة هذا دون النظر إلى العمق العربي وكثافته السكانية.
أما المساحة الجغرافية فإننا نتحدث عن مساحة الدول الثلاث التي لا تقل عن 1.5 مليون كلم مربع مقابل حوالي أقل من 20 ألف كلم مربع هي المساحة التي قامت عليها إسرائيل (المساحة الإجمالية لفلسطين تقدر ب 27 الف كلم مربع).
قد يقول قائل إن إسرائيل تتلقى دعما غير محدود من أمريكا خاصة في مجال السلاح والتكنلوجيا، وهذا صحيح ومعلن لكنها، على الأرجح لم ترسل جنودا للقتال مع إسرائيل.
فكيف حدثت هذه الهزيمة الماحقة على هذا النحو؟
والصلاة والسلام على الحبيب الشفيع.
يتواصل بإذن اللـه