لا وجود للغةٍ معيارية أو نسخة فصحى أو أفصح أو أنقى من نسخة أخرى خارج الصراع على السلطة ورسم معالم للتمايز الطبقي وصناعة الهامش من قبل المركز.. وفي كل لغة لغات، وليست لهجات، بالمعنى القدحي الدارج للوصف، إلا انطلاقا من أرضية سياسية أو اقتصادية أو دينية معينة مفارقة للغة في حد ذاتها، أي أنه في كل لغة جيوب وتمايزات تمليها العزلة الجغرافية والتأثر باللغات المجاورة ومستويات التعليم والثقافة والتلاقح وأصول الناطقين بها.
وليست الحسَّـانية بدعا بين اللغات، فقد كان من بين المتحدثين بها منحدرون من أعراق شتى (وولوف، وفلان، وماندينغ) وأخلاف ناطقين بلغات منقرضة أو على شفا الانقراض (الآزيرية، والصنهاجية، وأمازيغيات أخرى ربما). كما كان التمايز الطبقى وما يمليه من اختلاف في تمثل الثقافة العالمة واللغة العربية الحاملة لها، والفرنسية لاحقا مع الاستعمار، وشساعة المساحة والتنوع اللغوي في الجوار، وتعدد الأنشطة زراعة ورعيا وتجارة جنوب النهر وفي مالي أسبابا ساهمت في رسم خريطة متنوعة للحسَّـانية.
وإذا كان التنازع الجهوي لأهل نواكشوط قد أفرز مناوشات لغوية فيسبوكية لا تهدأ ومغالبة لم تحسم بين الشرق والجنوب، تتجلى في هذا الارتباك بشأن الجهات، فإن لغة الهامش الحرطاني ظلت بمنأى عن هذا الصدام سادرة في عزلتها.. وإنها لتستحق مثل كل أنماط التعبير الثقافي والألسني لدى الهامش التاريخي أن تدرس وتروى، بعيدا عن الوصم الاجتماعي، وقريبا من فهم التطور اللغوي والأنماط الناظمة له.
ورغم أن التنوع اللغوي الآن أحد أبرز الحقول الألسنية تناولا وتداولا في الجامعات، فإن جامعة نواكشوط وطلاب اللغويات في موريتانيا، وكثيرا من أساتذتها، ما يزالون، كما يبدو من الجدال الذي يندلع بين فينة وأخرى على فيسبوك، يعيشون خارج اللحظة الألسنية متمسكين بنظرة جامدة للغة وفهم متحجر معياري للألسن. وهذا ما يحرمنا حتى الآن من رسم خريطة لغوية لبلادنا تبرز ألوان التنوع وتمدنا بفهم موضوعي علمي للاختلافات الألسنية وارتباطاتها الاجتماعية والتاريخية وتمثل الناطقين بها لألوانهم اللغوية ونظرتهم للمتحدثين بالألوان الأخرى.
باب حرمة