يٌعَدٌ البحث العلمي وتأثيره على التنمية في موريتانيا موضوع اهتمام متزايد للسلطات العمومية وأصحاب المصلحة في مجال البحث. وفي سياق هذا الاهتمام صادق مجلس الوزراء على " مشروع مرسوم يتعلق بهيكلة البحث العلمي في موريتانيا ". وتدل هذه المصادقة على إدراك السلطات العليا في بلدنا لضرورة الاستثمار في البحث لتطوير المعارف والتقنيات التي من شأنها أن تدعم المجتمع في مواجهة التحديات الكبرى التي يواجهها. وقد أدى هذا الوعي إلى مضاعفة أعداد المصادر البشرية الأكاديمية المؤهلة وتعزيز القدرات العلمية والتقنية والمؤسساتية البحثية في السنوات الأخيرة. فقد تم إنشاء مجالس ومؤسسات وطنية عديدة للبحث والتعليم العالي ؛ كما تم اكتتاب وتكوين مجموعات معتبرة من الباحثين الذين لديهم القدرة على المساهمة النوعية في البحث العلمي كالمدرسين الباحثين الجامعيين والمهندسين وتقني البحث وغيرهم . وعلى الرغم من هذا التعزيز للقدرات العلمية والتقنية والمؤسساتية ، فإن البحث العلمي في بلدنا يواجه صعوبات هيكلية موضوعية يرتبط بعضها بأساليب التنظيم والتقييم والتمويل ، هذا فضلا عن الأداء المتواضع من حيث الإنتاج العلمي والتكنولوجي .
إن هذه الصعوبات الهيكلية التي تواجه البحث العلمي ومؤسسات البحث الحالية في بلدنا تعود بالدرجة الأولى إلى مجموعة من العوامل تَحٌدٌ من فاعلية ونجاعة البحث العلمي وتطويره :
- غياب الهيكلة الشاملة للبحث العلمي والابتكار،
- هيمنة الأنشطة البحثية الفردية ،
- تشتت البنية التحتية و الموارد المادية والبشرية ،
- محدودية عمليات التقييم والتنظيم وضعف إدارة نظام البحث .
- غياب سياسة بحثية حقيقية متناغمة مع إستراتيجية التنمية ( العلمية ، الاجتماعية ، الاقتصادية والثقافية ) .
إن هذه العوامل المٌعِيقَةٌ لِحَرَكِيَةِ وتطور وجدوائية البحث العلمي تَحْمِلٌ انعكاسات سلبية مٌضاعَفَة ليس فقط على مستوى جودة التعليم العالي ولكن أيضا على المستوى التنموي .
أولاً، بالنسبة لجودة التعليم العالي المٌقَدَم في المؤسسات: التعليم العالي الذي لا يتم تجديده وتنشيطه باستمرار من خلال البحث محكوم عليه بالفقر أو حتى الرداءة، خاصة في التخصصات سريعة التطور.
ثانيا ، على المستوى التنموي: أصبح البحث العلمي اليوم مقبولا لدى الجميع باعتباره قطاعا استراتيجيا يٌعَوَلٌ عليه لتحقيق التقدم الاجتماعي والاقتصادي. فمن خلال تعزيز البحث العلمي وتطبيقاته تَحَقَقَ تقدمًا هائلاً للبشرية. وعلى العكس من ذلك، فإن ضعفه وافتقاره إلى الهيكلة المٌعَقلَنَة والبنية التنظيمية المٌحْكَمَة يمنعان من تحقيق التنمية التي تتناسب مع الطموحات المنشودة في مختلف القطاعات .
وللتغلب على الانعكاسات السلبية المٌتَرَتِبَة على غياب هيكلة البحث العلمي ، وتحسين أداء ونجاعة الاستراتيجيات المعتمدة في مجال هيكلة وترقية البحث لا بد من إرساء أسس جديدة لسياسة وطنية تكون واعدة في مجال البحث والابتكار. فَقِيَاسًا على تجارب البلدان التي لديها نظام بحث وطني منظم وفعال فإن أي سياسة عامة للبحث العلمي والابتكار يجب أن تعمل على :
- تزويد النظام الوطني للبحث العلمي بالأطر القانونية والتنظيمية؛
- إحداث لجنة مكلفة بالتنظيم والتقييم الاستراتيجي لهياكل البحث والابتكار ،
- مراعاة المبادئ الأساسية التالية التي تضمن تماسك وتَمَيٌزأنشطة البحث العلمي : التوجيه والبرمجة والتقييم ( بالاعتماد على خبراء التقييم ) ،
- ضمان الاستثمارات في البحث والابتكار
- التواصل مع الجهات الفاعلة في مجال البحث والابتكار بهدف تهيئة الظروف اللازمة لتنويع الاقتصاد وخلق مزايا تنافسية وطنية جديدة ؛
- بلورة واعتماد رؤية طويلة المدى في مجال البحث العلمي ؛
- التركيز على التدابير الرامية إلى تحسين ظروف البحث والابتكار،
وفي ضوء هذه الأسس المٌحَدِدَة لسياسة البحث العلمي فإن إعادة هيكلة البحث العلمي التي سَبَقَ وَأَنْ أوصى بها المجلس الأعلى للبحث العلمي والابتكار في دورته المنعقدة في شهر يناير 2022م ينبغي أن تأخذ بعين الاعتبار الخصوصية الموريتانية ثقافيا واجتماعيا واقتصاديا مع مراعاة الوضعية الراهنة للبحث العلمي في بلدنا . ذلك أن حَوْكَمَةَ البحث العلمي وهيكلته ترتبط ارتباطًا وثيقًا بخصوصيات كل بلد. لا يوجد نموذج أمثل واحدللحوكمة . ولذلك قد يكون من المخاطرة الرغبة في تقليد نماذج البلدان الأخرى دون مراعاة الخصوصية الوطنية . علاوة على ذلك، تقوم العديد من البلدان بانتظام بتعديل إطار إدارة سياسات البحث والابتكار الخاصة بها من أجل تحسينه وتكييفه مع التغيرات في البيئة السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
إن تحليل الوضعية الراهنة للبحث العلمي في موريتانيا تجعل من هيكلة هذا القطاع أمرا ضروريا لا بل مٌسْتَعْجَلاً ، ولكن بما أن عملية هيكلة البحث العلمي تٌغَطِي تدابير وأنشطة متعددة تشمل التنظيم والتشريع والتنسيق والتخطيط والبرمجة والتمويل والتوجيه والمتابعة والتقييم فإن إعادة هيكلة البحث العلمي لا يمكن أن تٌوكَلَ إلى وزارة وحدها أو مجلس أعلى للبحث أو مؤسسة معينة للبحث لوحدها وإنما ينبغي إحِرَازٌ التزام جماعي تشارك فيه السلطات العامة (الحكومة ) ، ومؤسسات التعليم العالي ومنظمات البحث نفسها والقطاع الخاص (الشركات والجهات الراعية) ، هذا فضلا عن الدور المركزي الذي يمكن أن يلعبه الباحثون ليس فقط على مستوى تنفيذ عملية هيكلة البحث العلمي وإنما أيضا على مستوى التصور والإدارة والترقية للبحث العلمي وكل ما يتصل بهمن بنى ومؤسسات .
الدكتور سيدي محمد يب أحمد معلوم
أكاديمي وخبير دولي في إدارة عمليات الاكتتاب والمسابقات