تقَاسٌ الأعْمَارٌ التقديرية للأحزاب السياسية بِمَقَاسِ القناعات الإيديولوجية والمواقف المبدئية للشخصيات الكارزمية المٌؤَسِسَة لتلك الأحزاب ، ولذلك فمن الأحزاب ما يعيش حياته داخل حَقِيبَةِمٌؤَسِسِه ، يتنقل به حيث يشاء ، قد يجد فرصة الاندماج مع حزب آخر أكثر شعبية وحضورا منه وقد يبقى عنوانا عَرَضِيًا ومِلْكِيَة خاصة لمٌؤَسِسِه يبقى ببقائه ويفنى بفنائه ، ومن الأحزاب السياسية ما يتأسس على خلفية شخصية سياسية أو اجتماعية كارزمية معينة يتوارثه الأبناء والأقارب عن الأجداد له حدود جهوية معلومة يَسْتَأسِدٌ فيها على غيره من الأحزاب الأخرى في مواسم الاقتراع ولكنه ما أن يخسر بعض أو معظم رموزه وقياداته السياسية المٌؤَسِسَة حتى يبدأ في الاحتضار ، وهناك أخيرا من الأحزاب السياسية التي تستمد قوتها وأسباب استمرارها وحضورها وقدرتها على المشاركة السياسية الفاعلة من النظام السياسي والعقيدة الأيديولوجية المٌؤَسِسَة لها ، وهذه الفئة الأخيرة من الأحزاب لا يٌمَثِلٌ فيها الأشخاص سوى أرقاما أو أدوات لتنفيذ الأهداف الإستراتيجية لسياسات وبرامج الحزب ، تمثل هذه الأحزاب الأخيرة فضاء مفتوحا للاستقطابوالتبادل الحر والعفوي للمسؤوليات الحزبية ولكنها تٌلْقِيخارجها الشخصيات القيادية التي تفشل في الإدارة النموذجية لشئون الحزب .
وإذا كان الحزبان الديمقراطي والجمهوري في أمريكا ( USA ) يمثلان مِثَالا حَيًا على هذه الفئة الأخيرة من الأحزاب فإن شَخْصَنَةَ الأحزاب السياسية وظاهرة الترحالالحزبي هما الطابع العام الذي ميز الحياة السياسية في موريتانيا . ففي بَلَدِنَا ليس للالتزام الحزبي معنى ويمكن للحزب الواحد أن يٌسْتَخْرَجْ له شهادة أزدياد جديدة مع ظهور كل سلطة سياسية تمسك بزمام الأمور في البلاد ، وقد تٌسْتَخْرَجْ له شهادة وفاة وهو مازال نَشِطًا حَيًا يرزق ، كل ذلك بسبب شَخْصَنَةِ العمل الحزبي وطغيان المقاربات البرغماتية في مجال العمل السياسي . وقد تفاجأ المتابعون للأنشطة الحزبية في بَلَدِنَا باستقالة الزعيم الروحي لحزب التجمع من أجل الإصلاح والتنمية " تواصل " في موريتانيا . وأقول زعيمه الروحي لدوره المركزي في الدفاع والترويج لأيديولوجيا هذا الحزب الإسلامي داخل موريتانيا وخارجها ، كما بات من المألوف في ذاكرة المواطن الموريتاني أن " حزب تواصل " وهذا القيادي السياسي المستقيل هما وجهان لعملة واحدة .
وقد طرحت هذه الاستقالة عدة استفسارات وربما تساؤلات حول الأسباب الفعلية لهذه الاستقالة . وبالعودة إلى النص الكامل للاستقالة ( بتاريخ 9-8-2023م ) نجد أن القرار يعود إلى مجموعة من الاختلالات متعلقة أساسا بعجز الحزب عن " تعزيز القوة المؤسسية الذاتية " و عن " إدارة التنوع القيادي " وكذلك عجزه عن التعاطي مع " التنوع الحزبي وإشكالاته المختلفة " . وهذا ما يمكن ترجمته بانتهاج قياداته السياسية الحالية لمنهج سياسي قائم على سياسة الإقصاءوالإبعاد لإِخْوَانٍ لهم في الحزب " لا تنقصهم الكفاءة ولا الخبرة " كما يقول القيادي السياسي المستقيل . والحقيقة أن كل هذه الاختلالات التي ذكرناها سالفا كانت موجودة إلى وقت قريب في الممارسات الاعتيادية لأعضاء الحزب وقادته ولا سِيَّمَا على مستوى البنية الفوقية للحزب إلا أن معالجتها أو الامْتِعَاضِ منها لم تكن تشكل أولوية بالنسبة للقيادات السياسية المٌؤثِرَة في " حزب تواصل " وذلك لعدة أسباب نذكر منها: أن هذه الاختلالاتكانت تحصل بعيدا عن الولاءات والمصالح السياسية الضيقة لقادةالحزب وبالتالي فإن محاولات قلب القيم الاجتماعية وخلق مجتمع مثالي من خلال العمل على إنتاج طبقة سياسية قيادية جديدة في البرلمان أو في غيره من مؤسسات الدولة لم يكن يٌنْظَرٌ إليها مَثَلاًمن زاوية التمييز الايجابي لشرائح اجتماعية معينة وإنما كان يٌنْظَرٌ إليها على أنها تكريس لمنطق " التنوع الحزبي " ولذلك فإن ما حصل من استقالات في الحزب وما سيحصل لاحقا إنما هو بسبب التراجع النسبي على أية حال عن ترقية ذلك التمييز الإيجابي . وبما أن " حزب تواصل " كان يتغذى سياسيا وماليا ( الدعم الخارجي ) من صراعه مع الأنظمة السياسية السابقة ، ولا سِيَّمَا ما أصبح يعرف بنظام العشرية ( 2008- 2019) ، فإن إخماد نيران هذا الصراع ، مع مجيء السلطات السياسية الحاكمة حاليا ، قد صَرَفَ أنظار رموز " حزب تواصل " إلى مشاكلهم الداخلية التي كانت تعتبر ثانوية مقارنة بخصومهم السياسيين الذين كانوا يشكلون تهديدا وجوديا بالنسبة لهم ، ولذلك فإن إستراتيجية المصالحة السياسية مع كل الفاعلين السياسيين الوطنيين التي تبنتها القيادة السياسية الحالية للدولة قد حَشَرَتْ قادة تواصل في زاوية ضيقة لا يمكنهم إلا أن يواجهوا بسببها مشاكلهم السياسية القديمة – الحديثة . وفي ضوء هذه الاختلالات القديمة – الجديدة التي أدت على ما يبدو إلى استقالة الزعيم الروحي والقيادي السياسي البارز في " حزب تواصل " ، ولا أقول القيادي السياسي الوحيد نظرا لتعدد قيادات الحزب ، فإن مسلسل الاستقالات الفردية والجماعية من الحزب قد يتواصل مما يٌنْذِرٌ بأن فترة المخاض الطويلة التي تَحَمَلَ مشقتها الحزب سَتٌفْضِي في النهاية إلى ميلاد أحزاب فرعية من نفس طينة حزب تواصل ، وربما ينتهي المطاف بهذا الحزب الإسلامي ، الذي يتظاهر أنصاره لتعزيز الحقوق الديمقراطية ولا يتظاهرون لإقامة حدود الشريعة الإسلامية ، إلى التلاشي رويدا رويدا في الأمواج العاتية للتيارات والأحزاب السياسية المتنافسة أحيانا والمتصارعة في الغالب في بلد المليون سياسي .
الدكتور سيدي محمد يب أحمد معلوم
خبير في إدارة عمليات الاكتتاب والمسابقات