يُعرّ ف علماء النفس الشغب بأنه شكل معقد ومتجذر من الاضطراب الناجم أحيانا عن عوامل كثيرة، تتفاوت فيه ردود أفعال الشعوب بحسب وعيها، وبحسب ارتباطها بأوطانها، لكن مفهوم الشغب في موريتانيا تتداخل فيه عوامل مركبة ومعقدة يلعب فيها العامل الخارجي دوراً بارزاً، حيث تتأثر الأثنيات بامتدادها الثقافي والاجتماعي خارج حيزها الجغرافي وهذا الأمر ينعكس بشكل مباشر على نوعية إثارتها للشغب.
فخلال ستة عقود من عمر الدولة الموريتانية يمكن لمتتبع ظاهرة الشعب عند الموريتانيين أن يميز بسهولة بين أسلوبين متجذرين لهما علاقة مباشرة بنظرة الشرائح لمفهوم السلطة والأحقية وغيرها من المفاهيم التي يضيق المقام هنا عن الخوض في تفاصيلها، فالبعض يوجه شغبه لمؤسسات الدولة ورموزها معتمداً في ذلك على مرجعيته الذهنية التي تربط مفهوم الدولة بالمستعمر الفرنسي "الكافر"، وهناك من يرى أحقيته التاريخية في ملكية الأرض ويعتبر غيره مجرد غزاة، وتتضح أساليب هذا الصنف من خلال مشاهد الحرق والنهب للممتلكات العامة والخاصة، وقد تأخذ في بعض الأحيان صبغة عنصرية لا تخلو من نزعة انتقامية تبدو حاضرة بقوة في الهتافات والشعارات العشوائية للمشاغبين.
ولا شك أن ضبابية مفهوم الهُوية ساهم بشكل كبير في تجذر أعمال الشغب من قبل فئات عريضة من المجتمع، فقد كانت أحداث 1966 ، باكورة هذا النهج القائم على التفرقة بين الاثنيات بهدف إثارة الشغب الذي يسعى في المحصلة لإشعال فتيل حرب أهلية كما حدث عام 1989، والحق أن تماسك اللحمة الوطنية استطاع وبصعوبة بالغة أن يقف في وجه معظم الهزات التي ستعرف حدة في السنوات اللاحقة، خصوصا بعد استغلالها لعوامل اقتصادية وسياسية للاستمرار في النهج ذاته، كما حدث في سنوات 1992 و1995 أو ما يعرف في أدبيات الأنفوغرافيا بأحداث الخبز الشهيرة.
إثارة الشغب في الآونة الأخيرة باتت أكثر عنفا وتنظيما، كما رأينا في احتجاجات سائقي سيارات الأجرة وغيرها، كما أنها أصبحت مرتبطة بشكل وثيق بالمناسبات السياسية، فلا تكاد تمر انتخابات دون أعمال شغب، ولعل ماحدث بعد نتائج رئاسيات العام 2019 خبر دليل على ذلك، صحيح أن "مَنْهجَةَ" الفوضى صارت ظاهرة عالمية،فقبل عقدين من الآن تحدثت وزيرة الخارجية الأمريكية في حكومة جور بوش الابن عن ما أسمته بالفوضى الخلاّقة، وبدا واضحاً أن ثمة إستراتيجيةً جديدة لدى صناع القرار في البيت الأبيض تسعى لإدراج مفهوم الدولةالفاشلة failed state في النظام العالمي الجديد، وتطبيقه على دول بعينها في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وفي هذا الصدد يأتي الربيع العربي في العام 2011 الذي كاد أن يعصف بما بقي من الدولة الوطنية القائمة منذ الاستقلال.
لم تكن موريتانيا بمعزل عن هذا السياق، رغم حرص قوى دولية بعينها على تطبيق النموذج السوداني عليها، من خلال إثارة النعرات بين مكونات الشعب الواحد، وهو أسلوب من أساليب الحرب الباردة، للبحث عن مواطن في الدول التي تتمتع بمواقع جغرافية مهمة، تلك الحرب التي ظهر شبحها من جديدة وبصورة أكثر سخونة بعد استحواذ الروس على مناطق النفوذ التقليدية لفرنسا في القارة الإفريقية، الأمر الذي سيلقي بظلاله على السلم الأهلي في دول الساحل عموما وفي تلك التي لديها احتياطات مغرية من النفط والغاز على وجه التحديد.
الملفت للانتباه هو تلك العلاقة العضوية بين الشغب العنيف وتزايد أعداد المهاجرين غير الشرعيين، في نواكشوط ونواذيبو، فقد ألقت الشرطة القبض على أعداد كبيرة من المتظاهرين الأجانب خلال الأحداث الأخيرة، في سابقة من نوعها، ما يعني أننا أصبحنا أمام تحديات أمنية جديدة تضاف إلى العبء الذي يشكله هؤلاء المهاجرون على الخدمات التي تقدمها الدولة الموريتانية لمواطنيها، والظاهر أن النزوح القادم من إفريقيا جنوب الصحراء، الذي يتخذ من مدننا الكبرى نقاط تجمع، له مخاطره العديدة، التي لم تعد تهدد أمننا الداخلي فحسب، بل إنها تنذر بانقلاب وشيك للهرم السكاني في أوروبا الغربية، فضلا عن تجاوزها لكل الخطوط الحمر التي تمس السلم الأهلي في الولايات المتحدة، بحكم الحساسية التاريخية التي تحكم العلاقة بين ثنائية ديموغرافية حرجة في بلاد العم سام.
نحن إذن أمام العديد من ظواهر الشغب المتعددة السياقات والأهداف، تتغذى على الاختلالات الناجمة عن غياب سلطة تنظيم لمراقبة الحدود الفاصلة بين السياسية وبين الحقوقية والتحريض قادرة على ضبط محتوى الكراهية المتداول على وسائل التواصل الاجتماعي، كي لا يتم استغلال كل حدث لإثارة الفوضى، وبحسب الخبراء الأمنيين، فإن الأحداث حين تخلف قتلى يمنحها ذلك رصيدا، في الذاكرة الجمعية تكون من خلاله قادرة على إعادة إنتاج العنف عبر شغب مستطير، يجعل من المحرضين على الكراهية في الشوسيال أبطالا في نظر غالبية سلمت كلمفردات الأسئلة المتعلقة بمصير الأمة وبمصالح العباد والبلاد لغوغاء تحاول الانتقام من المجهول عبر خطط نازية تهوى بطبعها كل ما له علاقة بالتخريب.
د.أمم ولد عبد الله