قرأت مقال الدكتور في موقع " اقلام حرة" لزملائنا الكرام بتفكيرهم النير الذي يستقبل النقاش الهادف على صفحات الموقع،
..
وهذا المقال مؤطر بالأفكار المعاصرة، كمفاهيم الحداثة، التي تحاكي تشكل "المزن" في الأفق، لغيم تجمع من لواقح البحار، وليس من بحرنا، او مناخنا، او من "مركب" تقلبات طقسنا بين الرطب، و الجاف..
لهذا، يسأل القارئ الدكتور، وهو الكاتب الرائع في طرحه، عن تغييبه للعلاقة الجدلية بين الوطن:( الدولة، والمجتمع)، وبين استلاب المواطن، وهو الاستلاب الحاصل جراء تجربة الانظمة السياسية منذ اثنين وستين عاما(٦٢)، بمعنى منذ، أن بدأت تطفو في الأفق، استلاب المواطن من حقوقه وتعويضه( الفيشية) عنها بتبني المواطنة الصورية في بعدها الثلاثي من طرف : المجتمع، النظام السياسي، وقهرهما، التشيؤي للمواطن حقوقيا، ونفسيا..؟
ففي مجتمع متخلف، لم يعرف تحولا اجتماعيا، كتنمية علمية لتقود التغيير في بنية الثقافة التقليدية، وتفكك مكانة الأسرة، لا الأسرة لذاتها، والقبيلة، والفئة، والتباين العرقي العام، وكلها، تدغم، تهمش دور الفرد، المواطن.. وتلحقه، تضيفه في منظومة السلوك، كما لو ان دوافعه محدودة بالغريزية، بدلا من الوعي الثقافي، والاجتماعي في دورة الحياة العامة بالكاد،، فلا توقع لخروجه من الانسيابية في مسارب الظلال التي تخفي دور الفرد في زوايا مظلمة، كالأسرة، والفئة، والقبيلة، ومدارها التراتبي.. !
وقد انضاف إلى غياب دور الفرد ، المواطن، التنميط الذي مارسته الانظمة السياسية، وليس منها في شيء " الدولة" التي لازال البعض منا يستنزلنا بدافع رغبته في التحديث،،، لا وصفا لواقع سياسي موصوف بخططه التوجيهية، او العملية، او مؤسسات فعلية، لا الصورية، وذلك في سبيل التغيير الأفقي، بله العمودي،، لا، لأن المواطن غير قابل للتفاعل مع معطيات العصر، بل لحرمانه منها، وحجبها عنه، وبالتالي تشكلت رؤية آثمة بدعايتها على أساس أن المواطن رافض، لأدوات التطوير ، لذلك بادلته الانظمة السياسية بالرفض المازوشي..وكأن لا مسؤولية، يفرضها الواجب..!
ولعل من مظاهر التنميط القهري للفرد " الجبر بالاختيار" الذي يلهث وراء طيف خياله المواطن، واثبت ضعف دفاعاته القيمية العامة ذات الولاء للمجتمع، نظرا قابلية - المواطن - للتشيؤ مع النظم السياسية، في "العينة" الممثلة له في النخب الفاسدة التي كانت تمارس السدانة للأنظمة السياسية.!
وهنا تطرح اشكالية، تستحق الدراسة من الكتاب، وبالضرورة الكاتب الحصيف، وهي المتعلقة ببراغماتية النظم السياسية من أجل التمتع بوقتها النسبي في الفترة المعطاة لها..
لذلك لم يلاحظ لدى واحد من قادتها التمسك بمبدأ يوجه السلوك التسييري في السياسة العامة، وفي التسيير الإداري، وفي التعليم، وفي الصحة، والتنمية الاقتصادية، أحرى الخروج على المعطى الوظيفي للاستقلال السياسي الشرطي، والثقافي الاجباري، والاقتصادي التابع، الأمر الذي يحول دون التمكين من يحديد هوية مجتمعية حداثية. كأن النظام السياسي منذ تأسس محكوم بعقلية المستوطن مكانا مؤقتا، حتى ينتهي استغلاله للمكان، كالعشب بالنسبة للراعي، المنمي ،ثم يستبدله بمكان آخر، وخلال الترحيل، تغيب وجوه، وتأتي اخرى، وتقع احداث، وترمي بثقلها على الوطن، فيقع النظام السياسي في شبكة الصائد الشمالي، او الجنوبي...!
وتمر الاحداث، ويفعل تأثيرها مداه، لكنه، لا يحدث تغييرات جوهرية، حتى توجه البوصلة نحو التغيير الذي يفرض حضور سلطة النظام الممهد للدولة، على سلطة القبيلة، بل بقي العكس ، هو الذي حكم على كل من المجتمع، والنظم السياسية التابع له بالتحرك في الاتجاه المعاكس لحركة التاريخ في التحديث مقارنة بالمجتمعات المجاورة، حتى لا نستغرق في المفارقة، لو قلنا المجتمعات الحديثة، او المعاصرة..
فالقبيلة نظام بائد، ومع ذلك، فهو المتسيد، هو العامل الرئيسي بلغة علم الاجتماع، بينما النظام السياسي منذ قيامه بقي عاملا تابعا، لذلك يتساءل المتتبعون لحركة التغيير الاجتماعي، كيف لنظام سياسي، تابع للنظام القبلي العام، أن يقود التغيير، او يشارك في خدش مظاهره، ورغم عجزه عن تفكيك بنياته، فهو لم يحاول، بما هو جزئي على الأقل؟
وسيبقى السؤال الموضوعي، هو :
متى يتغلب النظام السياسي على القبلي، كبداية شرطية للتغيير، وذلك في قراءة أولية لتاريخ التغيير الاجتماعي العام المعاصر، فالنظام السياسي، يتحول من تابع إلى متبوع، ليخضع النظام الاجتماعي سواء أكان قبليا، او اقطاعيا، لكن شرط الشروط، هو تمكين النظام السياسي من آليات التغيير، فمتى تتوفر تلك الآلية في نظامنا السياسي الحالي، او اللاحق بعد فشل الانظمة السابقة عليهما؟
ولعل التفكير الجاد، هو الذي يطرحه الكتاب الوطنيون، لحل اشكالات الواقع على ضوء مطالب التغيير، وتوفر شروطه، والا فستبقى المقارنة قائمة - وذلك للخروج من المغالطة - بين انتظار التغيير الجزئي المستحيل في ظل النظام القبلي، وبين اللاتغيير في حده الجزئي الذي لم يقده المحتل الفرنسي خلال قرنين، وخرج بدون احداث ما شفع له في حكم التاريخ عليه، الا أنه محتل، نهب خيرات البلاد فترة طويلة، وخرج جزيئا ليوهم مجتمعنا باستعادة هويته الحضارية،،
وكان حضوره السابق واللاحق الحالي، لا يبرر احتلاله لبلادنا وغيرها على أساس التحضر، " الاستعمار"، يعني التحديث، المستند إلى التغيير الاجتماعي، والثقافي والاقتصادي، والسياسي..
وما لم تكن آليات التحرر ممكنة من الهيمنة الخارجية، وما يسندها في الداخل من تخلف النظام القبلي كشروط لتوجيه البوصلة، فلا محل للحديث عن مفاهيم الحداثة، الا من قبيل تلبيس الواقع، نظرا لانعدام الظروف الموضوعية، او حتى الذاتية ، كحراك سياسي اجتماعي ليشارك في تعميم الوعي بالحقوق المدنية والسياسية..
اما الأكثر موضوعية، هو ارجاء الحديث عن المواطنة، وغيرها من مفاهيم الحداثة، لأنه بمثابة تعتيم، وتغييم للواقع في بعديه الاجتماعي العام، والسياسي التابع بخصوصيته الانتمائية من رئيس قبيلة الى رئيس قبيلة أخرى.
ولعل هذا التنبيه، يعيد النظر لطرح اشكالات الواقع بخصوصيته، وحاجته للتطوير، وفق مشروع سياسي، ليشكل أرضية للنقاش، ومعالجة للظواهر، بديلا لما يثيره النقاش الراقي حول قيم الحداثة، وهو منفصل عن واقعنا، بمسافة النجوم اللوامع في ليلنا المظلم، حيث نصيبنا من الاضة عن بعد لا يغني من شيء.