نعم إنه من دواعي الاطمئنان أن ترى موريتانيا مصغرة أينما وليت وجهك: أن تراها في قصور الأغنياء وأكواخ الفقراء، في هرم الوظائف وأدناها، في صفوف القادة وجماهير المناضلين، في علية المجتمع وعامته، في المنتخب الوطني في وفرق الرماية التقليدية.
من المهم جدا أن يرى الواحد منا موريتانيا مصغرة أينما ولى وجهه، ولكن هل سيتحقق ذلك من خلال اعتماد مبدأ المحاصصة في التوظيف؟ وهل اعتماد مبدأ المحاصصة في التوظيف سيحسن من حال هذه الشريحة أو تلك أم أنه سيحسن فقط من حال أولئك الذين تم تعيينهم؟
إن اعتماد المحاصصة كأسلوب في التعيين والتوظيف لن يحسن من حال هذه الشريحة أو تلك، تلك حقيقة يجب أن تقال بلغة فصيحة وصريحة. إن ما سيحسن بالفعل من حال المغبونين والمهمشين هو رفع مطالب من نوع آخر، قليلا ما يتم رفعها، وذلك لكونها لا تحقق مصالح ضيقة و مباشرة لمن يتصدرون المشهد السياسي والحقوقي والإعلامي.
إن المطالب التي كان يجب رفعها هي مطالبَ من نوع :
1ـ الاهتمام بالتعليم العمومي، وفرض إجبارية التعليم، وتقديم إعانات للأسر التي تضطر إلى تشغيل أبنائها في وقت مبكر، وذلك حتى تقبل بتدريس أبنائها بدلا من الدفع بهم إلى ممارسة أعمال غير لائقة.
2 ـ تفعيل إصلاح 1983 العقاري ومنح الزراعة المطرية التي هي مصدر الرزق لآلاف الأسر الهشة المزيد من الاهتمام.. ويمكن القول بأن تعهد الحكومة بشراء ألف طن من الفاصوليا، والذي قوبل بسخرية كبيرة من رواد مواقع التواصل الاجتماعي هو خطوة في الاتجاه الصحيح، ويجب أن تعقبها خطوات من هذا النوع لدعم منتجات زراعية أخرى.
3 ـ توفير الدعم للتعاونيات الريفية، وخاصة تلك التي تتبع لنساء ريفيات.
4 ـ إطلاق برامج لدعم صغار الجزارين وبائعات الخضروات وممارسي مهنة غسل الثياب وغير ذلك من أصحاب المهن المشابهة، فهؤلاء يعيشون تهديدا في مصادر رزقهم نتيجة للتطور الحاصل في الحياة، والذي أدى إلى ظهور مجازر عصرية ومحلات أكثر جاذبية لغسل الثياب.
5ـ إطلاق برامج توعوية لتغيير العقليات وللحث على العمل بمختلف أشكاله وأنماطه.
إن تحقيق مطالب من هذا النوع هو الذي سيغير من حال الفئات والشرائح والمناطق المهمشة، أما رفع شعار المحاصصة من أجل تحقيق مكاسب ضيقة لرافعيه فلن يفيد هذه الشريحة أو تلك. إن هذا الشعار يقوم على مغالطة مكشوفة، فأصحاب هذا الشعار يحاولون إيهام من يستمع إليهم أو يقرأ لهم بأن هناك مكونة في غاية الانسجام وأنها تخطط وتنسق ليل نهار من أجل أن تبقى الوظائف وامتيازات الدولة حكرا لها دون غيرها. ما يتجاهله هؤلاء هو أن هناك قبائل كاملة من تلك المكونة تعاني من تهميش فظيع، وأنه حتى داخل القبيلة الواحدة فهناك أسر قليلة تحاول أن تحتكر الوظائف والامتيازات وهناك فئات واسعة من كل قبلية تعاني من التهميش والإقصاء مثلما تعاني قطاعات واسعة من مكونات وشرائح أخرى.
حقيقة الأمر هي أن هناك أسرا من كل المكونات والشرائح استفادت في مراحل مبكرة عند ميلاد الدولة الموريتانية، وهذه الأسر ما تزال تحاول جاهدة أن تحتكر الوظائف والامتيازات وأن تورث ما يمكن أن تورثه من وظائف وامتيازات لأبنائها وأبناء أبنائها. صحيح أن هناك شريحة واسعة غابت بشكل كامل عن الوظائف والامتيازات، وحرمتْ ـ ولأسباب معروفة ـ من تلك الوظائف والامتيازات ولا شك أن ذلك قد انعكس ـ وبشكل واضح ـ على استفادتها في الماضي والحاضر. ولكن الصحيح أيضا أن تصحيح ذلك الخلل لن يكون برفع شعار المحاصصة، والذي لن تستفيد منه إلا قلة قليلة جدا.
ولتأكيد وجاهة هذا القول فدعونا نتوقف مع جملة النقاط، والتي قد لا تجد من يتحدث عنها.
(1)
احتكرت ولاية الحوض الشرقي ولما يزيد على ربع قرن منصب الوزير الأول، مع وجود حالة استثناء وحيدة كان فيها نصيب الوزارة الأولى من حظ ولاية لبراكنة.
ربع قرن وولاية الحوض الشرقي تحتكر منصب الوزير الأول، ومع ذلك فما تزال هذه الولاية تعاني من بؤس شديد، وربما تكون من أكثر ولايات الوطن بؤسا وكل ولايات الوطن تعاني من بؤس شديد، وما تزال مدينة النعمة ـ عاصمة هذه الولاية ـ من أكثر عواصم الولايات بؤسا، وكل عواصم ولايات الوطن هي مدن بائسة.
لم يستفد المواطن العادي في هذه الولاية من احتكار ولايته للوزارة الأولى لربع قرن، لم يستفد في سكنه، ولا في صحته، ولا في تعليمه، ولا في تشغيل أبنائه، ولا في التحسين من ثروته الحيوانية. لم يستفد من احتكار ولايته للوزارة الأولى، وإنما انحصرت الاستفادة في الوسط الضيق جدا لمن تولى الوزارة الأولى من أبناء هذه الولاية، فاستفادت أسرة أهل محمد خونا، وأسرة أهل أمبارك، وأسرة أهل الكيك، وأسرة أهل زيدان، وأسرة أهل محمد لغظف، وأسرة أهل حدمين. أما الأربعمائة ألف وزيادة من سكان هذه الولاية فإن حالهم لم يتحسن ولو قليلا. يمكن أن نقول شيئا مماثلا عن ولاية انشيري التي حظيت برئيسين للدولة ينحدران من هذه الولاية أو على الأقل ينتسبان إليها، ومع ذلك فما تزال مدينة أكجوجت تعاني حتى اليوم .
(2)
في الفقرة السابقة تحدثنا عن أعلى الوظائف في الجهاز التنفيذي، وبينا أنها لم تنعكس إيجابا على الجهة أو المنطقة التي ينحدر منها من تولى تلك الوظائف والمناصب العليا. في هذه الفقرة سنتحدث عن الوظائف ذات الطبيعة السياسية والتشريعية، وسنبين بأن هذه الوظائف لم تنعكس هي أيضا على شريحة من تولى تلك الوظائف والمناصب.
دعونا نطرح أسئلة مباشرة جدا: هل انعكست رئاسة محمد ولد أبيليل للجمعية الوطنية بشكل إيجابي على الشريحة التي ينتمي إليها؟ هل تميز تسييره وإدارته لها عن تسيير غيره من أبناء الشرائح الأخرى وبما انعكس إيجابا لصالح الشريحة أم أنه لا توجد فوارق في هذا المجال تميزه عن غيره؟ وهل لاحظتم أن هناك اهتماما خاصا بسن القوانين التي يمكن أن تفيد الشريحة تميز به محمد ولد أبيليل عن غيره أم أن الذي لاحظتهم هو أن محمد ولد أبيليل ومحيطه الأسري الضيق قد استفادا كثيرا من هذا المنصب، وأن الشريحة في عمومها لم تستفد أي شيء من وجود أحد أبنائها على رأس هذه الغرفة الهامة؟ وهل استفادت شريحة أخرى في عهد رئاسة الشيخ سيد أحمد ولد باب للجمعية الوطنية؟ وهل سمعتم في عهد ذلك الرجل عن تشريع قوانين ذات أهمية لتشجيع الصناعة التقليدية مثلا أم أن الذي حصل هو أن الشيخ سيد أحمد ولد باب جمع أموالا طائلة، وشيد القصور، ثم أغلق من بعد ذلك أبوابها في وجه المستضعفين من شريحته؟
سؤال آخر: هل سمعتم عن مقترح قدمه المجلس الاقتصادي والاجتماعي للحكومة لصالح هذه الشريحة أو تلك في هذا العهد أو ذاك؟ وهل هناك فرق يذكر فيما تحقق لصالح هذه الشريحة أو تلك عند المقارنة بالفترة التي ترأس فيها أحمد سيدي باب المجلس وتلك التي ترأس فيها مسعود ولد بلخير هذا المجلس؟
أخيرا ماذا استفادت مكونة أخرى من مكونات المجتمع احتكرت رئاسة مجلس الشيوخ لما يقترب من ربع قرن، فهل استفادت تلك المكونة من هذا المنصب الرفيع أم أن الذي استفاد في حقيقة الأمر هم الأشخاص الذين تولوا ذلك المنصب الرفيع؟
(3)
في الماضي كانت الحركات والتيارات الأيدلوجية ذات تأثير قوي في تحريك الساحة وفي الضغط على الأنظمة، ولقد استغل الكثير من قادة تلك الحركات والتيارات مواقعهم القيادية لتحقيق مكاسب خاصة على حساب حركاتهم و تياراتهم التي ينتمون إليها.
كانت التيارات الأيدلوجية مطية للتعيين، ولكن المفارقة أن قادة ومناضلي تلك الحركات والتيارات كانوا يسارعون إلى رمي الأفكار والمبادئ التي "يؤمنون بها" في سلة المهملات عند أول تعيين ليتفرغوا من بعد ذلك لمصالحهم الخاصة.
كثيرٌ من القوميين اختزلوا ـ بعد التعيين ـ الوطن العربي الكبير ليس في القطر الموريتاني، بل وفي أضيق من ذلك، فاختزلوه في القبيلة وفي العائلة، وجعلوا من مصالح أسرهم الضيقة مصالح قومية كبرى!
وكثيرٌ من الكادحين تحولوا ـ بعد التعيين ـ من مدافعين عن حقوق الفقراء والمستضعفين إلى لصوص ومفسدين من الدرجة الأولى.
وكثيرٌ من الإسلاميين طبلوا ـ من بعد التعيين ـ للتطبيع ولتحويل العطلة إلى يوم الأحد، ولم ينسوا هم أيضا نصيبهم المعلوم وغير المعلوم من سرقة المال العام.
اليوم وبعد تراجع التيارات الإيديولوجية بدأ البعض يفكر في طريقة جديدة للتعيين فرفع لواء القبيلة والجهة والشريحة، وأصبح لا شغل له إلا تبيان الحرمان الذي تعاني منه قبيلته أو جهته أو شريحته، وهو لا يقوم بذلك خدمة للجهة أو للشريحة أو للقبيلة، وإنما يبحث عن وظيفة.قد تكون هناك استثناءات قليلة جدا، ولكن في الأغلب فإن أولئك الذين يرفعون لواء القبيلة أو الجهة أو الشريحة لا يبحثون إلا عن مصالح خاصة.
فكم من حقوقي وكم من مدافع عن هذه الشريحة أو تلك أغلق أبواب قصره من بعد التعيين في وجه المستضعفين من شريحته؟
لقد تعودنا من النخب الموريتانية التي تبحث عن التوظيف أن تتحدث عن تهميش مناطقها وقبائلها وشرائحها، وإذا ما تم توظيف أي واحد من أصحاب تلك الدعوات نسي منطقته وقبيلته وشريحته التي تاجر بمظلمتها من أجل الحصول على وظيفة.
ختاما
إن تعيين هذا الشخص أو ذاك، لن يفيد هذه الشريحة أو تلك المنطقة. إن الذي سيفيد حقا هذه الشريحة أو تلك المنطقة هو إعطاء الأولوية لقطاعات معينة، وإطلاق برامج تنموية جادة تعود بالنفع على الآلاف من الأسر مع العمل من أجل أن تكون الكفاءة والاستقامة وحسن الأداء هي المعايير المعتمدة في التوظيف والتعيين.
حفظ الله موريتانيا..
محمد الأمين ولد الفاضل