إنّ محمد باب ولد سعيد هو، برأيي، صوتٌ أخلاقي في هذا البلد. لقد قُدّ من معدن مختلِف. إنّه من المؤسِف أنّه لم تعد في هذا البلد ذاكرة، ما أصبح يُسهّل الرجم الطقوسي لأكثر الناس مبدئية وإخلاصاً.
إنّ النقاش الذي أثاره محمد باب بفضح رشوة جلية قد أظهر أنّه أصبح- مثل كثير من الشرفاء- ديناصوراً كيشوتياً. فبدل أن ينتظِم الناس في حملته الداعية لتسليط رقابة شعبية على يوميات الفساد، فإنّهم حوّلوا النقاش إلى مسألة في قطع الأرزاق والمروءة والاستئساد على الضعفاء؛ وفي النهاية صار هو المجرم بينما المرتشي بطلاً! إنّ هذا لمن عجائب الأمور! والذين قاموا بهذا الإقلاب القيمي ليسوا دوماً الحكواتيين والتراثيين و"الماينبغيين"، الذين يسترشدون في حياتِهم بنظام "اليتواس والمايتواسَ" المضاربي، وهو نظام ليست له نظرية أخلاقية مجردة، وإن كانت له اعتمالات ما، بل هم أحياناً مناضِلون محترَمون.
هؤلاء الأخيرون هم شرفاء بلا شك ويمكنني شخصياً أنّ أشهد على بعض ذلك. ولكن محاججاتهم النظرية غير واضِحة، ويجب أن يشرحوها لنا نحن العامية. أيقترِحون أنّ الرشوة الاعتياشية ليست برشوة؟ أيقولون إنّه ما دام المرتشي محتاجاً فإنّ الرشوة تكون مروءة في حقّه؟ أيقولون إنّه بما أنّ الفساد منتشر فمعناه أنّه لا يمكن التشهير به؟ أم يقولون إن الفساد السفلي ليس بفساد أصلاً؟ وأنه لا توجد فضيحة أخلاقية في الرشاوي الصغيرة (بالمناسبة هي ليست صغيرة فـ"لحجاب" الموريتاني يبزّ "القهوة" المغربية أو "الهدية" السنغالي بالأضعاف المضاعفة)؟ أم يرون أنّ الحديث عن الرشوة الصغيرة مسامحة للرشوة الكبيرة؟ أم أنّهم يقولون إنّه لا يمكن الحديث أخلاقياً عن الفساد في الأسفل الطبقي ما لم يُحلّ جميع الفساد في الأعلى؟ أم أنّهم يقولون إنّه بما أن الدولة فاسدة فيجب دمقرطة فسادها؟ أو أنّه بما أنّ أجور بسطاء البيرقراطية غير كافية فمن حقّهم زيادة أجورهم بالمتاجرة بالخدمات العمومية؟ ما هي نظريتهم الأخلاقية؟ أم أنها ليست بنظرية أصلاً، بل هي مقولة شعورية؟ مقولة ماينبغية، مقولة مايتواسية؟ عُرف؟ مروءة؟ طقس؟ هكذا إذاً؟
لقد اقترَح محمد بابَ أن نجعل الرشوة غير مقبولة اجتماعياً بأنّ نُشهّرها. وقد اقترَح عليه المناضلون قبل الرجعيين أن نجعلها مقبولة اجتماعياً من خلال تغطيتها بغلاف أخلاقي يدخلها في جملة المروءة والإحسان. لقد سمعت محاججات أخلاقية في العفو عن الراشي المضطر أمام بيروقراطية متغوّلة، ولكن هذه أوّل مرة أسمَع فيها محاججة أخلاقية في التغطبة على المرتشي. يبدو أنّ المجتمع يقترِح أنّ يتحمّل عن الدولة ضعف أجورها؛ وأن يحمل الرشوة على سبيل البقششة والعلاوة؛ وأن يُعقلِن الفساد الصغير. المجتمع يقترح اللاقانون بديلاً عن القانون لأنّه يرى أنّ اللاقانون يتيح مستوىً من العدل لا يتيحه القانون. إنه خرق أخلاقي. وككلّ الخروقات الأخلاقية فإنّه يتدثّر بالحياء والواجب والمروءة والإحسان.
هذا ما صرناه أيّها السادة والسيدات بعد عقود من موت الدولة: لقد صرنا هذا العصر المُطبّع للطرائق الملتوية، المتسامح مع العيث. هؤلاء هم نحن، ويجب علينا أن ننظر لأنفسنا في المرآة بخجل. أمّا الراديكالي الاستئصالي فقد صار ماموثاً متزمّتاً ويجب رجمه، كما يحدُث يومياً على المصالب الفيسبوكية، التي صُمّمت على الغريزة لا المبادئ ،والعاطِفة لا العقل، والارتجال لا التدبّر.