إنّ أيَّ تحوّل سياسيّ على مستوى السلطة، ومهما كان ضرورياً وأساسياً، يتوجّب أن تكون زاوية مسألة الاستقرارِ هي أهم زاويةٍ يُنظَر من خلالها إليه. وفي تلك الحالة فإنّ السؤالَ: هل من أفرزه هذا التحوُّل للقيادةِ السياسية قادرٌ على ضمانِ الاستقرار؟ يغدو أهمَّ سؤالٍ على الإطلاق.
ما مِن مسألةٍ في الاجتماع السياسي تعدلُ مسألةَ ضمان الاستقرار في الأهمية. ذلك أنه بدون الاستقرار يستحيل وجود اجتماع سياسي حقيقيّ تماماً. والسبب ليس أنّ الاستقرار يُعدّ شرطاً للتنمية كدعامةٍ اجتماعيّة، بل في أنه يُعدّ شرطاً وجودياً لتحقّق السياسة ذاتها.
فالسياسة التي لا تقاربُ مسألةَ الاستقرار، وتفكّر فيها، وتعمل من أجلها ليست سياسيّةً تماماً. لأنّ السياسةَ كنمطٍ من العملِ والتفكير متى خلت من أخذ مسألة الاستقرار بعين الاعتبار استحالت نوعاً من العبث الرديء الذي لا يمكنُ به تدبير الممكناتِ والمصالح. وبدورها تُشكّل السياسة شرطاً للاستقرار، بل وضمانةً له. كلّما كانت الوضعية السياسة صحيّةً كلّما كانَ ذلك مُساعداً على الاستقرارِ ومُجذّراً له.
في حالتنا الموريتانيّة نحن أحوج ما نكون لتدعيمِ الاستقرار. صحيحٌ أننا في حاجةٍ لأشياءَ كثيرة جداً، ولكنّ حاجتنا للاستقرار، رغم نعمة وجوده الآن، تفوق كل شيء. إنه الأساس الذي لا ينبغي أن نفقده لنعرف قيمته، بل ينبغي فقط أن نعرفَ أولويّته حتّى لا نفقده أبداً. هذه هي الأولويّة التي يُحتّم الوضع الإقليمي والعالميّ على الإلحاح الدؤوب في تقديرها.
دائماً ما تكون احتمالات الفوضى واللاّ استقرار بارزةً في لحظات الانتقال السياسيّ بحكم ما يصحبه من استبدالٍ في النخب، وإزاحةٍ لها، وتغييرٍ في التوجّهاتِ والرهانات والمشاريع والتحالفات. فالصراع على السلطة، ضمنياً، هو جوهر كلّ انتقالٍ سياسي وإنْ كانَ سلساً. وفي الديمقراطيات الناشئة، المُفتقرة لتقاليدَ في الانتقال الديمقراطيّ يُعزّزها نمطُ تحديثٍ ناضج، تزدادُ احتمالية بروز الفوضى بعدَ الانتقالِ السياسيّ.
وهكذا فإنّ الاستقرارَ عند كلّ تحوّلٍ سياسي لا يغدو فقط هاجساً سياسياً، بل استراتيجياً حقيقياً بالأحرى. بمعنى أنه صارَ يتعدّى السياسة إلى وجود الدولة.
بالتالي إنّ ما حصلَ في 2019 شكّل حدثاً مهماً وفريداً. فالمترشّح آنذاك، رئيس الجمهوريّة الحالي محمد ولد الغزواني، يمتلك من الميزاتِ والمؤهلات ما يجعله قادراً على إحداث عبور سياسي دونَ مخاطر أو قلاقل. فبحكم أنه ابن مؤسسة جمهوريّة تضلّع بأدوار عديدة فيها، فإنّ ذلك يمكنه من فهم التحديّات والصعاب التي يمكن لبلدٍ كبلدنا، وفي وضعٍ كوضعنا، أن يكونَ عرضةً لها. إنّ حسّه التوافقي العابر للمجموعات والجهات ساعدَ هو الآخر في خلق تلاقٍ إجماعي نادر حوله.
لقد كانت المرة الأولى التي تجتمع النخبة السياسية على دعمِ شخصية. وقد ساعدَ خطاب المترشّح الإجماعي، الواعي بالتحديّات، ونسبيّة الممارسات السياسية السابقة، في تأطير ذلك الإجماع سياسياً وإمداده بروحٍ أخلاقيّة شاملة. وعندما حانَ وقتُ الاقتراع وتبيّن أن الفوز من حظّه، ورغمَ الجوّ المحتقن ظرفياً، بدا جلياً ساعتئذٍ أنّ الوضعَ السياسيّ قد تهيّأَ، على نحوٍ استثنائي، للتناغم مع شكلٍ جديد للحكم. وقد عبّر ذلك التناغم عن استعدادٍ نادرٍ تماماً للتقبّل والتعاطي. ولوهلة ذابت الصداميّة الحادة التي كانت تطبع المشهد السياسي طيلة السنوات الماضيّة. واتضّحَ للجميع أن التعارض السياسي لا ينفي وجودَ تشاركيّة التعاطي والنقاش. والأهم لا ينفي الحقوقَ، ولا التقدير. وبعيداً عن أن يكونَ هذا الأمر سحراً مفاجئاً، فقد دلّ على نهجٍ واعٍ سياسياُ بواجباته القياديّة.
إنّ تأمين الانتقالِ إلى هذه الوضعية، بكل سلاسة وهدوء، شكّل مكسباً عظيماً ما كانَ ليتحقّق لولاَ الرؤية السياسية والاجتماعية للسيّد الرئيس وخصاله الذاتية المتميزة. وقد بيّن مسار الأحداث التي أعقبت استلامه للسلطة خطورة اللّحظة التي يمرّ بها البلد والحاجة إلى وجود شخصية قياديّة تتمتّع بمزايا ذاتية وخبرة في مفاصل الدولة، قادرة على تأمين هذا الانتقال بكل سلاسة. ولم يكن من السهولة أبداً لشخصيّة بدون خبراتٍ وميزاتٍ استراتيجيّة أن تحقّق اختراقاتٍ مرنة على مستوى البنية القائمة، والتي صارت تشكّل خطراً وجودياً على البلد ومستقبله.
لم يكن بطبيعة الحال تقدير حساسية اللحظة محلاً لإجماع كل الناس أو بالأحرى كل المهتمين من من نسميهم النخبة السياسية، ولكن مآلات الأحداث ستكشف أيضاً عن فروقٍ دقيقة بين من يملكون وعياً سياسياً جدياً وبين هواة السياسة.
لقد كانت النخب السياسية (أحزاباً وشخصيات) في الأغلب، على مستوى اللّحظة، وما تقتضيه من وعي بضرورة الحفاظ على الاستقرار، وبالأهمية الحاسمة للسياسة وحدها في تقرير مصير البلد. وهنا تشكّل الإجماع مرة أخرى حول الرئيس اعترافاً من الجميع بقدرته وحده على الخروج بالبلد من مجاهيل الانتقال التي جرّت بلدان مشابهة في أوضاع شبيهة إلى الفوضى والخراب.
إنّ السياسة هي العالم الذي تتشكّل فيه الحقيقة، والحقيقة هي أنّ مسألة انتقال السلطة ليست آلية وليست مجرد قراراتٍ وإنما هي في الواقع مسألة شديدة الخطورة ومحفوفة بالمخاطر التي توّلدها التناقضات داخل المجتمع من جهة وتضارب المصالح والمنافع من جهة ثانية وصراع الرؤى والأفكار من جهة ثالثة. وبدون وجود شخصٍ قادر على إدارة كل هذا يتحوّل الانتقال لتهديد وجوديّ للبلد.
وهكذا فإنّه من بين عناوين الحصيلة العديدة، فإن ضمانِ الاستقرار وتأمين عبور الانتقال وتكريس التناوب في إسناد الحكم يظلّ العنوان الأكثر مركزيّة على مستوى مستقبل البلد ومصيره.
اقرأ ايضا:
من أجل مفهوم جديد لفكرة الحصيلة (1)