ليس من العادة السؤال عن حصيلةِ رئيسٍ ما زال في الحكم. ذلك أنّ السؤال عن الحصيلة دائما ما يكونُ بعدَ انتهاء المأموريّة وتركِ الحكم. ولكّن هذه العادة قد شهدت نقضاً. فالجميع الآن يسألون: مالحصيلة؟ ولعلّ هذا من جهة ليس سيئاً تماماً. فالسؤال عن حصيلةِ ما انقضى من فترة مأموريّة الرئيس بالرغم من تسّرعه من شأنه أن يُساعدَ في الحثّ على بدء العملِ، أو إتمام نقصانه، أو تقويم اعوجاجه. وفي هذه الحالات جميعاً هناكَ فائدة. والفائدةُ هنا، بمعنى المتحقّق من إيجابيات ومنافع، هي المقصودُ غالباً بالحصيلةِ عند السؤال عنها.
لكنَّ أهم نقطةٍ في فكرة السؤال عن حصيلة رئيسٍ لم تنقضِ مأموريّته الأولى بعدُ هي تجنّب الإرجاء. فالإرجاء بما هو تركُ الأمور إلى الحينِ المناسب في المستقبل، أي حينَ تنقضي تجربة الحكمِ وتتضّح خفايا الأمور، قد باتَ متجاوزاً. ويندرجُ هذا، على ما يبدو، في مسعى إضفاء السرعة على الأشياء، والقضايا، والمسائل، وربطها باللّحظيّ والآني سعياً إلى تلمّس حقيقتها الناجزة فيه. بيدَ أن هذا المسعى ينطوي على مخاطر. أبرزها: أنه بحكم ارتكازه على اللّحظي فإن ذلك يعرضه للتسطيح، ويُفقده أيّ جوهرية، وبالتالي يجعلُه مفتقداً للتعاملِ مع الحدثِ في تمامه النهائي الحقيقيّ.
ولعلّ في الفكرة التقليديّة بشأنِ أخذ مسافةٍ رجعية من الحدثِ لفهمه والإحاطة بجوانبه بعد أن تجلّت كل تبعاته واتّضحت كل خيوطه ما يفيدُ في هذا الصدد. فهذه الفكرة التي صارت اليومَ منهجيّة تأريخيّة، بإمكانها أن تؤكد لنا من هذه الناحية أن تقييمَ حصيلة نظامٍ ما تقييماً سليماً يغدو أكثر سهولة إذا أخذنا مسافة زمنيّة منها. أمّا عندما يلحّ الطلب على تقييمِ الحصيلة، قبلَ أخذ مسافةٍ زمنية منها، فلا بدّ والحالة هذه من توفّر شروط أهمّها: أن يكون المُقيّمِ للحصيلةِ نزيهاً، لا غرضَ له غير طلب الحقيقة ونشدانِ مصلحة البلاد، وأن يكونَ مستنداً لعمقٍ في التجربة السياسية وتقديرِ الواقع وإملاءاته وفهم المتغيّراتِ والممكنات.
إنّ أوّل تقييمٍ من هذا النوع كان قد حدث في وقت مبكر نسبياً، فبعد انقضاء أول سنةٍ على وصول الرئيس ولد الغزواني إلى الحكم أقامَ «المركز الموريتاني لأبحاث التنمية والمستقبل»، بتوجيهٍ من الراحل محمد يحظيه ولد ابريد الليل، ندوةً فكريّة بعنوان: «موريتانيا بعد عام، فاتح أغسطس: مالحصيلة؟ والمطلوب؟». وقد كانت هذه الندوة، في حينه، بادرةً ممتازة لجمعِ بعض أهل الرأي في البلادِ للتأمّل في حصيلةِ عامٍ من حكم الرئيس الحالي.
على الرغم من أنّ الوقتَ، حينئذٍ، كان ما يزال مبكراً على التقييمِ إلاّ أنّ حصافة منظمي الندوة، وبُعدَ نظر شخصّيتها الأولى الرّاحل محمد يحظيه ولد ابريد الليل، قد مكّنا من صياغة رؤيةٍ تقييميّة جيدة جداً في المجمل. ويعودُ ذلك، في المقامِ الأول، إلى مراعاةِ السياق وشروطه وإمكانياته على نحوٍ رصين بعيداً عن سرعةِ الحكم وأحاديته.
اليومَ وبعد انقضاء ثلاث سنواتٍ من حكم الرئيس ولد الغزواني، يبدو أنّ جهودَ التفكيرِ في الحصيلةِ، بعد ندوة «المركز الموريتاني لأبحاث التنمية والمستقبل»، لم تُستأنف أبداً بالرغم من الحاجة الماسّة لها. ومع ما يبعثه هذا من قلق بوجود مؤشراتٍ عن تقاعسِ أهل السياسة والرأي عن مهمة التفكير اليومَ في مسارات ومآلاتِ هذه السنوات الثلاث، فإنه ينّبهنا على ضرورةِ أن تكون هناك مساعي دائمة من أجل هذا التفكيرِ وما يُفضي إليه من تقييمٍ خالٍ من الشطط والضحالة، وذلك لأن تقييمَ حصيلة ثلاث سنواتٍ ليس عملاً هيّناً، وبالتالي فلا يمكنُ لفردٍ عاديّ القيام به. إنّه بالأحرى مهمة مراكز البحث التي تتعامل مع حكمِ وتسيير ثلاث سنواتٍ دون اختزالها في معطياتٍ رقمية صمّاء.
إذاً، إن فكرة تقييمَ حصيلة ثلاث سنواتٍ هي، في الحقيقة، فكرة صعبة تماماً. فهذه السنوات الثلاث ما زالت مساراتها وتبعاتُها قائمة، وما فيها من صوابٍ أو خطأ، أو نجاحٍ أو فشل، يصعبُ جرده كأرقامٍ جاهزة. وبالرغم من كل هذا، فإن ما يسعنا أن ندركه من تتبع السنوات الثلاث هو بالأحرى ملامح عامة عن الحصيلة التي يظل إجمالها مرهونا بالمستقبل، أي نهاية المأمورية على أقلّ تقدير. ومع ذلك فإنّ انتظارَ الفرصة لتقييم الحصيلة، على نحوٍ دقيق وسليم، لا يعني تعليقَ الحياةَ السياسية ولا إيقافَ نشاطها، بقدرما يعني انتظارَ الفرصة الكاملة لتقييم الحصيلة عند اكتمال معطياتها النهائية.
ومن ثمّ فإنّ حصيلة ثلاث سنواتٍ هي حصيلةٌ عموميّة، وسياسيّة، مُدرجةٌ بالضرورة في المسار التاريخي للبلد المثقلِ بتحديّات الحاضر ومواريث الماضي. وعليه ينبغي أن نكونَ حذرينَ عند تقييمها والتحدّث عنها قبلَ امتلاكِ المعطيات ونضجِ الظروف لما في ذلك من التسّرع والتعامل بخفّةمع شأنٍ حساس تتقاطع مسؤوليته بين الجميع. ونحن وإذ نوضح في أجزاء السلسلة الآتية من هذا المقال الملامحَ العامة لحصيلة هذه السنوات الثلاث فإن ذلك لن يكونَ استجابةً للطلبّ الملح على الحصيلةَ كإنجازاتٍ خدميّة على شكل أرقامٍ متتاليّة، لما في ذلك من اختزاليّة وتشييءٍ وقفزٍ على السيّاق، وإنما سيكون نوعاً من التأمل في الفترة الماضية على ضوء شروط السياق وإمكانياته وصعوباته السياسية والاستراتيجيّة.
... يتبع