إن الشرائحية لا تعدو أن تكون الطفح العاطفي, على جسد الحاضر, لما يعتقد الشرائحي أنه أحداث الماضي. وهو طفح لا علاج له, لأن علاج الماضي تطبيب ميت. تصيب ردة الفعل النفسية هذه بعض أبناء الشرائح التي يعتقد أن من أجدادها من تعرض لظلم, لكنها لا تقتصر عليهم فهي تصيب أيضا -بنسبة أقل بطبيعة الحال- بعض أبناء من كانوا في الجهة المقابلة عبر التقمص الوجداني لشعور أبناء تلك الشرائح خاصة إذا كانوا أقارب أو مقربين, تماما كما نجد بين اليساريين الصادقين الأثرياء وأبناء الأثرياء. وهي حالة نفسية صحية داخل كل مجتمع ويجب أن تعامل كذلك, ما يجب أن نحاربه هو تحولها إلى فعل سياسي أو أن يعيش المجتمع على وتيرة فوراتها, لأن ذلك يمهد عبر صناعة الكراهية لولادة قوميات داخل المجتمع الحساني -بما قد يترتب على ذلك من أحداث لا تخدم الإنسان والتنمية, أبعد الله طقسها عن هذه الأرض وهوائها- لأن القومية لا تعدو أن تكون اعتقاد بانتماء مشترك, تشكل المخيلةالشعورية التاريخية أحد أهم أركانه, وتشكل سرديات المظلومية غدة الإفرازات الأكثر مأساوية للقومية قي تاريخ البشرية.
إن الشرائحية الفردية ليست خطرا على المجتمع, إذا فهمنا أنها ظاهرة نفسية تتراجع فوراتها بانحسار غليان الشباب, ظاهرة نفسية طبيعية بل صحية وتعاملنا معها كذلك, نفرق بينها وبين الحقوق. إن للظلم رواسب, أعظمها رواسب الظلم الذي لم نعشه, عشناه بالنيابة تخيلا, لأن ظلم الواقع نعرف ظروفه فنضعه في إطار حيثياته ونزنه بقيم زمانه, أما الظلم الذي عشناه بالنيابة تخيلا فنستطيع بأريحية تامة أن نضعه على حلبة الخير والشر, ونختار خيرين ناصعين وأشرارا, في مشهد واضح لا غبار عليه, جردته مخيلة الانحياز العاطفي من قسطلان الصراع البشري. وإن الفرق بين الشرائحيين والحقوقيين هو أن الشرائحيين يتأوهون من أحداث الماضي -الذي رحل ظالميه ومظلوميه إلى حيث لنا لا يخبرون-ويشخصون حالتهم النفسية, وأن الحقوقيين يشخصون عيوب الحاضر ويناضلون من أجل إزالتها, ويجب أن تزول.
إن سؤال, هل وقع ظلم تاريخي؟ رياضة ذهنية لا يترتب عليه أي شيء, لأننا لن نقضي للأموات من الأموات وإن بلغنا عدالة عمر, وإذا أورثنا ظالمية أو مظلومية للأحياء أوقعنا ظلما على أبرياء, فلو قدمناشخصا واحدا من طبقة يعتقد أنه وقع عليها غبن تاريخي على من هو أكفأ منه لأنه من شريحة أخرى نكون قد أوقعنا ظلما لا ينجينا منه أن ميتا كان قد ظلم ميت -غفر الله لعباده أو عذبهم, برحمته وعدله- ولو قدمناه لكفاءته كان البعد الشرائحي للمسألة ظلما له, لأنه إنما تقدم لأنه استحق تقديمه.
إن كثيرا من الشرائحيين يندفع بنية حسنة على ما يعتقد انه طريق المساواة, لكن طريق جهنم مبلطة بالنوايا الحسنة -أو النيات- كما تقول العبارة. دون تعقل وحكمة تحول طاقة العواطف اندفاع ثور, تفسد ولا تصلح, إن الشرائحية السياسية ستقود في أحسن الأحوال إلى إطالة فترة احتضار العقلياتالتقليدية بزيادة حضور البنية المجتمعية التقليدية في حياتنا اليومية, وتعيق التحول نحو المجتمعات الفردية التي وحدها كفيلة باختفاء عقليات الماضي وأسواره وخنادقه التي تشكل رافدا من روافد المظالم التي يناضل الحقوقيون لإزالتها, وقد تقود في أسوأ الأحوال إذا استمرت صناعة الكراهية إلى خلق قوميات داخل المجتمع الحساني, لن تسير بنا إلا على طريق الأفق المظلم, طريق البلقنة. يجب أن يدرك ذلك أولئك الذين يقسمون المناصب داخل الأحزاب والحكومة والإدارة على أساس الخانات القبْلية التي لا استحقاق للفرد فيها ولا ذنب, أولئك الذين يهيئون الظروف ليكون الخطاب المتشنج مطية لمكاسب سياسية أو مادية أو اجتماعية.
وفق الله وأعان
د. م. شماد ولد مليل نافع