خلال مهمة تنقيب تمت في الحوض الغربي وكاروكور بحثا عن أثار مساكن قديمة ومواقع صناعات معدنية، وبعد أن أرشدونا إلى بعضها، التفتت إلى أحدى النساء قائلة: "أنت التي تبحثين عن قطع الخزف، ترى لماذا؟ إنه ضرب من الجنون، فهي غير صالحة للأكل".
مرة أخرى وهي حكاية للرجل الذي أطلقنا عليه لقب «الشيخ الصغير» والذي طاف بكثير من المواقع الأثرية شمال كيفة لعدة سنوات ليعرض للبيع ثمرة تنقبيه على شارع جمال عبد الناصر قبل أن يرضى بتخصيصها للمعهد الموريتاني للبحث العلمي مقابل تعويض عن أتعابه، وكل المواقع التي ذكر، تم التحقق من وجودها خلال مهمات تنقيب فيما بعد.
أوردت مثل هذه النكت لأبين أن موقف الموريتاني العادي من التراث ينقسم إلى نوعين، الأول اللامبالاة والثاني البحث عن الكسب المادي، ذلك أن الموريتاني الذي لا يعير أهمية للتراث المنقول وينجذب اكثر إلى المكتوب مثل المخطوطات والمكتبات التي تحتوي كتبا قيمة تتوارثها الأجيال والتي يسمع عنها منذ الصغر وتعرف بها وسائل الاعلام كثيراً.
إن اللامبالاة الساخرة ليست لها انعكاسات ضارة عكس استخدام التراث في البحث عن المكاسب المادية، وينبغي أن نذكر في إطار هذه الندوة الجرائم التي ارتكبت خلال العقود الأخيرة في حق التراث الوطني الموريتاني.
ونذكر من ذلك اختفاء ما كان يسمى (كنز تاكداووست) بعد عرضه مباشرة في مؤتمر الشباب بـ ألاك عام 1970 والذي يضم حلي من أهمها الحجارة شبه الكريمة وخرز وسبائك من الذهب... وأن اكتشافها يناقض مقولة نصوص الرحالة العرب في القرون الوسطى والتي وصلتُ إليها، والتي تفيد ان دقيق الذهب كان عملة التبادل في حين لم ترد اشارة في هذه المراجع إلى مثل هذه السبائك وهذا دليل مهم على أنها قد اختفت قبل أن تجري دراسة معمقة لتحدد بصورة خاصة مصدرها وتركيز معدن الذهب بها، ولم يبق من هذه السبائك سوى صور فتوغرافية شاهدة على صحتها.
كما نذكر ايضا حادثا مؤسفا هو الاخر ويتمثل في اختفاء بعض التحف التي عثر عليها صدفة في اشاریم بتکانت وتتحدث الشائعة عن حلى نفيسة وركاب من الذهب وتيجان... وهي تحف لم تسجل ضمن التراث الموريتاني. كما كان سيحدث لو كان وجودها مجرد خرافة، وقد أثار انتباه السطلة المحلية آنذاك كثرة استخدام الذهب لدى الصناع التقليديين، في وقت لم تكن الحلي الذهبية واسعة الانتشار، إلي هذا الاكتشاف فتداركت ما بقی وهو الإناء الذي كان يحوي هذه التحف وبعض الدنانير المضروبة فى اسبانيا خلال العهد المرابطي في بداية القرن الثاني عشر، وارسالها الى نواكشوط، وحسب زعم البعض فقد كانت هناك 70 قطعة نقدية، وهو مما كان سيشكل مجموعة هامة لموريتانيا قد تجعلها الأولى في العالم. ومن هذه القطع النادرة في العالم لم يتبق سوى اثنتين من أصل ستة.
الا ينبغي في الأخير أن نتكلم؟ فإنّ الدوافع تختلف فيما يتعلق بالقضايا التي سبق ذكرها وحادثة زعم السطو التي كان ضحيتها المتحف الوطني حيث هربت منه الحلي الفضية والذهبية والتي وجدت بعد تحقيق الشرطة في ساحة الموريتانيين بداکار.
وهدف هذه النداءات هو التذكير إلى أن التحف الفنية القديمة حتى ولو كانت قطعة من الخزف تبقی شواهد تمكنُ من استيعاب الماضي الموريتاني في مجموعه أو تحديد بعض مظاهره على الأقل، فسبائك ذهب تاغداوست التي كانت مدفونة في دار واقعة في حي بضاحية المدينة تشهد على أن هنالك تبادلا تجارياً يفوقُ كثيرا ما كنا نتصوره، لو استنطقت من خلال تحليلات المخابر، ان إناء اشاریم البرونزي الذي هو من انتاجِ صانع تقليدي أندلسي، والدنانير التي قد تم تحليلها تشهد على وجود علاقة فعلية ومستمرة بين موريتانيا واسبانياً ذلك التاريخ.
وكيف نستطيع أن نعرف أن القطع النقدية الضائعة لا تضم قطعاً أكثر قدماً؟ أما تلك التي درست فقد ضربت بالمغرب.
ومع ذلك ما زال يوجد تراث موريتاني وفير يحفظه المعهد الموريتاني للبحث العلمي والمتحف بالإضافة إلى مجموعات اثنوغرافية تعتبر ممثلة لبعض انماط المعيشة التي اندثرت اليوم أو في طريقها إلى الاندثار.
المجموعات الأثرية:
لهذه المجموعات الأثرية مصادر (أصول) متنوعة، نتائج الأعمال التنقيبية التي قيم بها خلال الخمسينات في اكجوجت والتي تم ايداعها في المعهد الفرنسي لافريقيا السوداء ثم اعيدت فيما بعد إلى نواكشوط.. وأغلب هذه المجموعات كانت من نتائج الحملات التنقيبية التي قامت بها منذ الستينات بعثات رخصت لها المصالح الموريتانية المعنية، بعد أن التزمت هذه البعثات أن تعطى لموريتانيا (مصلحة التراث) كل ما ستحصل عليه من تحف وغيرها، وهذه البعثات هي أساساً بعثة ظهر تيشيت وبعثة خط لمعيتك فيما يتعلق بما قبل التاريخ ، تم يتبعه تاكداوست وكومبي صالح و آزوكي بخصوص القرون الوسطى.
وهنالك شواهد التقطت على السطح أي لم تكلف تنقيبا إبان بعثات البحث التي كانت تنظم من وقت لأخر في مناطق واسعة بعد توقف الأعمال الأركيولوجية المذكورة : وتتعلق هذه الشواهد مثلا بالقرى النيوليتيكية في اظهر تيشيت وولاتة وتكانت وبعض المواقع الأثرية التي تم تصنيفها في أمساكه وولاية انواكشوط..
أما تلك التي عثر عليها في آفطوط الساحلي وتاسكاست والمنطقة الواقعة شمال كيفه، فإن الشواهد الأثرية فيها تعود الى النيوليتيك والعصور الوسطى، كما حددت عدة مواقع أثرية في الضفة الموريتانية من نهر السنغال ومناطق استخراج المعادن في منطقة قريبة منها أو محاذية لها خاصة في أعالي حوض كوركول الابيض وعلى حافة المرتفعات الجبلية في واوه؟... الخ
واعتمادا على هذه المجموعات يمكن تصور مراحل نمو الزراعة وأخيراً المعادن، ويمكن أ نحدد أن هذه التقنيات قد استخدمت في مختلف شعب الصناعة التقليدية كما يمكن - من خلال هذه المجموعات الأثرية التي بين ايدينا - أن نفهم الحياة اليومية في هذه المناطق خلال فترات مختلفة وتطور انماط المعيشة كما تزودنا هذه الاثار بمعلومات حول العلاقات التي كانت قائمة بين مناطقها الأصلية والمناطق القريبة منها والبعيدة، فالاكتشافات مثلا في تكداوست / اوداغوست كانت عديدة نتيجة لخمس عشرة بعثة تنقيبية ولذا فقد درست أكثر من غيرها.
إن كنا لم نكتشف الملح القادم من آوليل فإن انواع المحار التي عثر عليها خاما أو في شكل حلي وكذلك الجاروزيت من نباتات المانغروف البحرية تثبت وجود علاقات بين المناطق الداخلية و المناطق الشاطئية، كما أن العثور على بقايا خزفية في الطبقات الاركيولوجية يبين أن خزفها قد تم استيراده من مناطق انتاجه في شمال الصحراءـ، مما مكن من التعرف على المعامل التي صنع بها ومن ثم تحديد بعض محاور التبادل التجاري.
كذلك تمكنا من خلال دراسة مقارنة اجريت أولا على المصابيح الزيتية التي تمثل آنذاك تقدما في مجال الانارة المحلية وتستجيب بدون شك لحاجات التعرف على معاملات السكان المهاجرين إلى جنوب الصحراء - من معرفة أن معظم عينات المصابيح والخزف المستعمل في تكداوست مستوردة من المغرب الصحراوي وعلى الخصوص من معامل سجلماسة ومجموعة صغيرة من تافلالت، ولكن بعضها الآخر استجلب من جهات بعيدة مثل تاهرت وافريقيا ومصر ومجموعة واحدة فقط هي التي لم يحدد أصلها.
ومن الأدوات المستوردة: آلات من الزجاج وقطع نقدية معدنية وأدوات وزن اسلامية ومقاييس اخرى، مشابهة لتلك المستخدمة في العهد الفاطمي وكانت هي المعمول بها في جنوب الصحراء وأوكار وحتى في النيجر.
واخيرا اكتشفت خمسة قوارير أبرزت خصوصيات تقنية صنعها ومصدرها المحتمل. وعلينا أن ندرس العلاقات مع الجنوب من خلال الإنتاج الخزفي في تاكداوست وسبائك النحاس والرص التي يمكن مقارنة تركيبها مع تلك القضبان الصغيرة التي اكتشفت في كومبي صالح والتي تعتبر عموما نقودا.
وهنالك آثار تفيد استيراد القطن من مناطق جنوبية، كما توجد أمثلة أخرى يمكن ذكرها للاستدلال بانه لا ينبغي الاستهزاء باي حفرية أو تحطيمها.
المجموعات الاثنوغرافية:
وقد جلب أغلبُ هذه المجموعات من سان لويس إلى نواكشوط سنة 1972 بعد توقیع اتفاقية بين موريتانيا والسنيغال، وحصل على هذه المجموعات باحثو المعهد الفرنسي لأفريقيا السوداء قبل الاستقلال، وقد أعيدت فقط الاشياء التي تعكس الحياة اليومية للبيظان من منمين وبستانيي الواحات خصوصا مواعين اهل ولاته التي لم تعد تصنع ولا تستخدم اليوم. أما تلك التي تمثل حياة فلاحي الجنوب فلم يشملها الاتفاق، وبقيت ضمن التراث السنيغالي. ولتلافي هذا النقص وجدنا أنفسنا مضطرين في 1973 للقيام ببعثة داخل شمامة وفي كيديماغا كي نعيد تشكيل مجموعات نموذجية تعكس صورة أصبحت متجاوزة اليوم، الحياة المستقرة والمعتمدة أساساً على الزراعة والفلاحة وادوات الحرث وقطع من الأثاث والخزف وادوات وشباك صيد الأسماك، وتعتبر هذه المجموعات ثمينة لأن التطور الذي تم في العقود الأربعة الأخيرة قد غير أو أدى إلى انقراض معظم أنماط الحياة هذه، فلم يعد الرحل يمثلون أغلب السكان الذين تجمعوا اساسا في المدن وظروفهم اليومية مستحدثة جملة وتفصيلا بينما تفرق الآخر نتيجة لعوامل سياسية داخلية أو غيرها.
الظروف التي تحفظ فيها هذه المجموعات:
تم ايداع المجموعات بعد جردها، بل إن بعضها وثق بالمعلوماتية في الفترة الأخيرة، في مخازن المعهد الموريتاني للبحث العلمي والمتحف الوطني، والمكونة من مستودعين غير مكيفين وضيقين ويقتصر تأثيثهما على دواليب خشبية: والتي تعتبر أفضل الوسائل لحفظ الخزف خلافا للتحف القديمة المعدنية مثل الأسلحة والأدوات التي تم ترميمها احيانا بأثمان باهظة في مختبرات أجنبية والتي تبقى ضعيفة المقاومة للظروف المناخية ومعرضة للتأكسد، إذا لم تلق العناية اللازمة، كذلك لا تلائم هذه الظروف حفظ الحاجات المصنوعة من الجلد او الخشب المتعرضة لتغيرات دائمة لدرجة الحرارة والرطوبة الهوائية.
كما ينبغي كذلك التعرض لقضية المعالجة والصيانة: إن تقديم معرض "واد النيجر" قد مكن كل المشاركين من تقدير وتثمين الفنية العالية للعمال الموريتانيين المكلفين بنقل حاجات قيمة وباهظة وتصفيفها داخل الواجهات الزجاجية ولكن مع ذلك ناسف لعدم وجود عمال متخصصين في الصيانة مكونين على تقنيات معالجة الجلود والخشب والمعادن... أو ترميم الخزف.
لقد استفاد المعهد الموريتاني للبحث العلمي خلال سنوات من مساعدة فني كان في السابق بسان لويس ورحل إلى نواكشوط في نفس الوقت مع المجموعات التي كانت مصانة بفضل أعماله، كما امتلك بعد تدريب في المعهد الفرنسي لافريقيا بداكار مهارة ملحوظة في ترميم الخزف مثل اعادة تركيبها واكمالها بالحصى، فكل الأواني الخزفية مدينة لفنه. لكن مع الأسف رغم مطالبته المتكررة بتكوين من يخلفه، فقد تقاعد دون أن يخلف.
ألا ينبغي أخيراً أن نتحدث هنا عن فترة السبات التي عاشها المتحف الوطني لسنوات عدة، والتي تخللتها عدة مرات تفكيك واعادة تركيب قاعات العرض، والتي كانت أولها 1986، للانصياع للأمر القاضي بإخلاء المكان لجمعية رؤساء دول إفريقيا الغربية: فقد تمت هذه العملية في استعجال دون أخذ الاحتياطات اللازمة للحفاظ على المجموعات المعروضة، اذ تمت ازاحة واجهات العرض الزجاجية وبداخلها التحف : وهو أمر قد لا يشكل خطورة على الواجهات الصغيرة (الأرضية) ولكنه مضر بالنسبة للواجهات الطويلة والثقيلة، وقد كررت نفس العملية سنة 1988 للقيام بإجراءات ترميم دار الثقافة والتي انتهت سنة 1989... وأخيراً تم ترحيل الواجهات الزجاجية للتحف الأثرية لتقديم المعرض المتنقل لـ"احواض النيجر"، والمجموعات المحفوظة في المتحف الوطني لم يتم اثراؤها بمجموعات أخرى و السبب في ذلك تواضع الميزانية التي لم تخصص أي بند لذلك ونظام إداري معقد يجعل تسديد اثمان المشتريات بطيئا مما يزعج البائعين. بعض التحف أو المجموعات لم يستفد منها التراث المحفوظ رغم تمتعه بحق الأسبقية رغم أنها توجد معروضة في المتاجر التي يزورها السواح.
ونشير في الأخير إلى أن عدة مشاريع لتحديث المتحف الوطني، وخصوصا مشروع 1989 لم تنجز رغم الطلبات والرسائل المتعددة بهذا الشأن، وعلينا أن نسجل بارتياحٍ وامتنان الاعمال التي انجزت حديثا.
ومن نافلة القول أن المجهود الذي ينبغي تحسيس الموريتانيين به هو وجود تراث يعايشونه يوميا مازال ناقصاً، لذلك فهم (الموريتانيون) يبقون غير مهتمين بالثقافة المحسوسة، وفي هذا الميدان فإنه ينبغي بسرعة رسم سياسية ثقافية تضم كل ميادين التراث وتخصيص الوسائل الضرورية لتحقيقها.
المصدر: دنيس روبرت شالكس شواهد ماضي قريب بعيد أو قريب: مجموعات أركيولوجية وأنثوغرافية، أعمال الملتقى الدولي الأول حول التراث الثقافي الموريتاني، 1999