موريتانيا فسيفساء من الشعوب والثقافات، انصهر بعضها مع بعض بحكم تعاقب الأيام والأحداث والجوار، وتقلبات الطبيعة والزمن، حتى أصبحت بعض هذه المجتمعات خبزةً واحدةً لها مكوناتها المختلفة. لكنّ نار السنين والتلاقي وحّدتها في قالب نهائي هجين، ومع هذا تميزت بعض هذه المكونات وظلت مختلفةً لا تشبه غيرها كثيراً، ومن مكونات هذا الشعب المتعددة التي ظلت عصيّة على "الاختلاط"، يبرز الفلان، بثقافتهم الثرية والمتنوعة والعريقة.
شعب عابر للصحراء الكبرى
الفلان شعبٌ عابر لمناطق الساحل الصحراوي ويختلف المؤرخون حول أصولهم. في حديث مع الباحث أحمد عمار تورى، قال لرصيف22: "من أطلقَ عليهم تسمية الفلان، هم العرب، وهم يطلقون على أنفسهم فُلبي بل، وهناك من يطلق عليهم الفلاتة، حسب جغرافية التسميات، أما بخصوص أصولهم فيختلف المؤرخون حولها اختلافاً كبيراً، ووصلت النظريات التي تتحدث عن أصل الفلان إلى سبع عشرة نظريةً، فهناك من يرى أنهم من البربر وهناك من يرى أنهم من اليهود وهناك من يعتقد أنهم من القوقاز وهناك من يرى أنهم من الهنود وهناك من يظنهم يتحدرون من حِمْيَر اليمن، ﻭﻣﻦ ﻳﺮﺟﻌﻬﻢ ﺇﻟﻰ ﺃﺻﻮﻝ ﺻﻮﻣﺎﻟﻴﺔ، ﺃﻭ ﺇﻟﻰ ﺃﺻﻮﻝ ﻧﻮﺑﻴﺔ، ﺃﻭ ﺇﻟﻰ ﺃﺻﻮﻝ ﺣﺒﺸﻴﺔ، حسب اختلاف الناس". ويؤكد المتحدث قائلاً: "لهذا من الصعب الاتفاق على رأي واحد في هذه المسألة".
في كتابه مدخل إلى تاريخ موريتانيا، يشرح الأستاذ محمذن ولد باباه، أماكن انتشار الفلان، قائلاً إن "مناطق استقرار "الفلان" أو " الفولبه" أو "الفلانة"، تمتد حول نهر السنغال خاصةً في فوته تورو، ونظام عيشهم رعوي وترحال، وينسبهم البعض إلى أصول عربية".
أما في كتاب "زهور البساتين في تاريخ السوادين"، يقول الشيخ الحاج موسى أحمد كامره: "الغريب في الأمر أنه يوجد اختلاف كبير حول أصول هذا الشعب المؤثر والمهيمن، فهناك من يربطهم لغوياً ببلاد فوتا تورو، نظراً للتقارب اللغوي بين جيرانهم من السريري (sérère) والولوف (ouolof)؛ وهناك من يرى أنهم عنصر من البربر -إذ إن بشرتهم أقل سواداً وهم أطول قامةً من الزنوج".
وهناك من يقول إنهم خليط من الأفارقة والبربر، ويقطع بعض المثقفين من الفلان بأنهم من شعوب إفريقيا الأصيلة ومكون واحد ولا علاقة لهم بالأصول المتداولة حولهم، وأصلهم إفريقي بحت.
أما مناطق انتشار الفلان، فهي من حوض نهر السنغال حتى النيجر، فشمال نيجيريا وتشاد ودارفور وكوردفان أواسط النيل المصري، والجزائر وليبيا وموريتانيا والسنغال وغامبيا، وينتشرون من امتداد السافانا على المحيط الأطلسي غرباً، إلى إثيوبيا وسواحل البحر الأحمر شرقاً، ومن منطقة شبه الصحراء شمالاً إلى المناطق الاستوائية جنوباً، ويقول توري إن الفلان: "ينتشرون في نحو 28 بلداً".
ينقسم الفلان إلى قسمين، بدو رُحّل وسكان مدن، وقال تورى عن ذلك: "هناك بدو رحل من الفلان وهم نحو 15 مليون نسمة، وهؤلاء ما زالوا يعتمدون على نمط عيش الفلان الأصيل، مثل الترحال بحثاً عن الكلأ، ولا حدود تمنعهم والحريّة هي سمتهم الأساسية، لهذا يرحلون إلى الأراضي الجافة في الشمال ثم الرطبة إلى آخره، فهم حتى الآن يعيشون كما كان يعيش الأجداد، أما بقية الفلان فيعيشون في المدن ويحاولون التأقلم مع القوميات الموجودة في هذه البلدان مثلاً".
الفلاني وعاداته وحبّه للبقر
للفلان عادات عريقة وصارمة، ومن أكثر ما يميز الفلاني، علاقته اللافتة مع البقر، فالفلان شعب يحب البقر ويبجّله ويتعلق به ويقول أحمد عمار تورى: "ارتباط الفلاني بالبقر ارتباط وطيد وهناك من يعتقد أن هناك من كان يعبد البقر، المهم أن لهم ميزةً خاصةً، فهم لا يربّون الأبقار لسبب اقتصادي، بل لعلاقة وطيدة مبنية على المحبة، وكما يقولون: الفلاني إن أعطاك بقرةً فقد أعطاك ابن عم له، لأن البقر عند الفلان أبناء عمومة، وقد أحبوا البقر لأنها رمز للحرية والجمال".
واصل المتحدث حكاية علاقة الفلان مع البقر، وقال: "أحبوها بيضاء وصفراء وحمراء وسوداء، وإذا نظرت إلى الألقاب الرئيسيّة للفلان، مثل لقب جالو ولقب با ولقب باري ولقب صو، ستجد أن كل لقب له لونه الخاص، مثلاً جالو عندهم أبقار صفراء ترمز إلى لون النار لأنهم يوقدونها في الليل، وأما با فعندهم أبقار حمراء ترمز إلى لون الدم الذي هو مهر الحرية فهم حماة الشعب الفلاني، وهناك لقب باري مثل الأبقار البيضاء بلون الورق لأنهم علماء ويكتبون، وصو لون أبقارهم السوداء نظراً لأنهم يسكنون في الجنوب والسواد يتماهى مع لونهم وهكذا".
توجد أغنية شهيرة للفنان غاندا فاديجا، من قومية السوننكي، يقول فيها إن البقرة لا تسمع إلا كلام الفلان. وعلاقتهم بالبقر هي من أسباب أسطورة يرددها البعض مفادها أن الفلان من أصول يهودية، إذ يرى البعض أنهم من اليهود الذين عبدوا العجل، فهم يسمون الصنم "تورو"، ويرجح هؤلاء أن كلمة تورو هذه هي تحريف لكلمة ثور بالعربية، وهذا الرأي عليه اعتراضات كثيرة.
طريق الحياة الصارمة
يتميز الفلان بضوابط صارمة للسلوك، يقول عنها توري: "ما يتفق عليه كل الفُلّان، هو حزمة من قواعد سلوك محددة تُعرف بپلاكو أو laawol Fulɓe، والتي تعني طريق الفُلان يتم تمريرها عبر التربية من جيل إلى جيل على أنها قيم أخلاقية عالية على الفُلّاني الالتزام بها، وعدم التخلّي عنها مهما كانت الظروف، وهذه الحزمة السلوكية هي التي تمكّنهم من الحفاظ على هويتهم وخصوصيتهم أينما وُجِدوا، ويرى الفُلّان أن أهم محددات الهوية الفُلّانية بعد تصورهم حول أصلهم المشترك ولغتهم وعنايتهم بالأبقار، هو الپلاكو، "أي الصفات السلوكية للفُلاني، وتتلخص في هذه الصفات بالصبر عند الشدائد، والتعقّل، والرزانة، والتَدَبِّرٌ، والتفهّم، والحياء".
للفلان عادات صارمة في الزواج، إذ إن الوالدين هما من يختاران للولد من يتزوجها، وحين يخطب شاب من الفلان إحدى بنات عمه أو بنات قبيلته، فإنه لا يأكل أمام والدة الشابة ولا والدها ولا يلتقي بوالدها ولا أمها في الطريق، فحين يراهما يعود من حيث أتى، وهذه العادات كانت في القدم واليوم بدأت تخف في الحضر، ولا تزال قائمةً في المناطق البدوية، وحين تتزوج الشابة فإنها تتخذ برقعاً بحيث لا يمكن لزوجها أن يشاهد وجهها نهاراً ولا تأكل معه إطلاقاً وتعيش على هذا الحال.
ومن عاداتهم، أن المرأة حين تنجب تظل بجانب طفلها حتى عقيقته، ولا تفارقه ولو للحظة واحدة خوفاً من أن يحل محلها الجان، ويستبدلوا مولودها بمولود غيره فيه نواقص، والحل عند غياب الأم هو وضع سكين قرب رأس المولود، وهي من العادات التي بدأت تخف هذه الأيام، ويتشاركونها مع بعض القوميات الموريتانية الأخرى، ومن عاداتهم أيضاً، أنهم يقومون بوضع إشارة على شكل صليب على جبين المرأة التي حان يوم عقيقة مولودها، ويرسم الخط بواسطة سواد القِدْر، وهذا الأمر جعل البعض يتحدث عن كون الفلّان كانت فيهم المسيحية في القدم، وهذه العادات موجودة اليوم أكثر في الريف والبوادي وتندثر في المدن.
حكّام دول إسلامية
يرتبط الفلان بالإسلام منذ القدم واليوم أغلبهم من المسلمين، وقال الباحث أحمد عمار تورى: "99 في المئة من الشعب الفلاني اليوم مسلم، وبشكل رسمي اعتنق الفلان الإسلام حين اعتنق ملك التكرور أي ملك الفلان الإسلام نحو سنة 1030 ميلادية، على يد الأمازيغ من المرابطين، مثل عبد الله بن ياسين ويوسف بن تاشفين وغيرهما، وقد شاركوا في فتح الأندلس، وأيضاً نشروا الإسلام في جنوب الصحراء إلى نيجيريا، وأبرز الدول التي أسسها الفلان، كدولة إسلامية بحتة، الدولة الإمامية في فوتا تورو 1776، مصادرها الأساسية هي الإسلام، والدولة الماسنية في ماسنة بقيادة سيكو آمادو، والدولة الإسلامية في غينيا كوناكري والدولة السوكوتي في النيجر والسودان عن طريق عثمان دان فودي، فهذه أبرز الدول الإسلامية التي أسسها الفلان، إذ نشروا العربية عن طريقها، لأنهم في الحقيقة كانوا يكتبون اللغة الفلانية بالحرف العربي منذ دخول الإسلام إلى أن دخلت اللاتينية وبدأت اللاتينية تدخل في المجال الكتابي للفلان بدءاً من 1966 ومؤتمر باماكو، حيث بدأ هناك نوعان من الكتابة، الحرف العربي للمحاظر (مدارس دينية تقليدية)، والحرف اللاتيني للذين يرتادون المدارس النظامية، وكتبوا كتابات كثيرةً باللغة العربية والفلانية معاً".
ويقول محمذن ولد باباه، في كتابه السالف الذكر متحدثاً عن علاقة الفلان بجوارهم: "قد رأينا أنهم تحالفوا مع اللمتونيين في أثناء الحركة المرابطية في الصحراء، إذ شارك أمير تكرور لبي بن دابي إلى جانب جيش أمير الحق عمر اللّمتوني، وكانت مملكة تكرور قد أسلمت منذ عهد والده وار دابي، وتوسعت حدودها فاستحوذت على بعض المناطق الواقعة إلى الشمال من النهر".
صراع للحفاظ على الهوية
يواجه شعب الفلان مجموعةً من التحديات التي تقف أمام حفاظهم على هويتهم وثقافتهم وتراثهم، ومن تلك التحديات عدم التواصل في ما بينهم، فهم منتشرون في دول لها حدود وهناك عوائق حدودية تمنع الاندماج بين الفلان، وهناك أيضاً مشكلة اللغة خاصةً في المدن الكبرى التي يجد فيها الفلاني نفسه مضطراً إلى أن يتحدث لغةً أخرى ليست لغته الأم، خاصةً إن أراد أن يتابع وسائل الاعلام، حيث تكون اللغة السائدة فيها غير لغته. ويشرح الباحث أحمد عمار تورى هذا التهديد فيقول: "رفض الفلان المستعمر لهذا لم يسكنوا في المدن وكانوا في الهامش، وقد عاقبهم المستعمر بأن لم يمكّنهم من أن يتبوؤوا السلطة في الدولة التي يوجدون فيها، وقد وجد الفلان أنفسهم بعد الاستقلال مضطرين إلى أن يتحدثوا بلغة غير لغتهم، حين يذهبون إلى المدن الكبرى، مثلاً في داكار يتحدثون هناك بالوُلُوفية، وفي نواكشوط بالحسّانية بالرغم من أن الفلان في موريتانيا أكثر تمسّكاً بلغتهم، وفي باماكو البمبارية هي السائدة، فهذا إذاً يهدد بقاء لغتهم، وحين نتكلم عن اللغة فإننا نتحدث عن وسيلة لنقل التراث الفلاني، لهذا قلت إن المجتمع الفلاني من البدو الرحل وهم أكثر تمسكاً بعادات الفلان وتراث الفلان، أما من يسكنون المدن فيحاولون التمسّك بالثقافة الفلانية بالرغم من الصعوبة التي يواجهونها، خاصةً أبناءهم، لهذا هناك تحديات كبيرة تواجه الفلان في إفريقيا مثل علاقتهم بالجوار، فمثلاً لكونهم رحلاً ورعاةً وكثير من القوميات التي تجاورهم أهل زراعة، وهذا ما يحدث دائماً المشكلات، فتحدث أحياناً نزاعات بين أهل الزراعة وأهل الرعي، لذلك تجد قتلى منهم في مالي وبوركينا فاسو. هذه أيضاً مشكلات تهدد وجود الفلان. وبالرغم من كل هذا فلغتهم ما تزال منتشرةً في إفريقيا وهي الرابعة أو الثالثة حسب الإحصائيات الموجودة، لأن الهوساوية والسواحلية والعربية والفلانية هي اللغات الأربعة التي تسيطر على إفريقيا حتى الآن".
وخلص المتحدث إلى القول إن "هناك مشكلات عدةً تواجه الفلان وثقافة الفلان غير أن الفلاني لا يترك ثقافته، وهناك جهود جبارة يقام بعضها في هذا الصدد مثل ما تقوم به منظمة "تابتال بولاغو" الدولية (منظمة تأسست عام 2002 في باماكو عاصمة مالي)، التي تحاول أن تربط الفلان في ما بينهم، وتنظم مثلاَ يوماً دولياً للبقرة وآخر دورة كانت في نواكشوط حضرناه وحضرها الفلان في إفريقيا وفي الشتات. وبدأنا نرى من الفلان من بدأ يتبوأ الرئاسة في بعض الدول، مثلاً في السنغال ماكي سال من الفلان، وفي نيجيريا محمد بخاري، وفي غامبيا آداما بارو، ومثلاً في غينيا بيساو عمر سيسوكو إيمبالو من الفلان، وفي غينيا كوناكري أبرز معارض هُناك من الفلان، وفي سيراليون رئيس الوزراء من الفلان، وهناك فلان يتقلدون مناصب كبرى في هيئات دولية مرموقة".