توفيّ مساء اليوم في الجزائر، أخرّ الصادقين وأخر العُظماء بحقٍ أحمد ولد حُباب، الرّجل الذي تركّ أثرهُ -وهو قابل للمحو لرداءة هذا الزمن- في التاريخ السياسي المُعاصر، مع نُكران شديد للّذات.
رحل بعد عقودٍ أفناها في أشياء قد لا تكون ذات أهمية اليوم، وهيّ السّعي لموريتانيا كنّا نحلم بها جميعاً، موريتانيا يكون رجال فيها مثلّ دفا باكاري يُستمع لهم، موريتانيا التي لا تنحازُ لقبيلة أو عرقٍ، وطن يسع الجميع، وهو ما لم يتحققّ سوى في القلب الكبير الذي كان يحملُ حباب وقد توقف هذا القلب!
إن الحديثَ عن حُباب بصيغة الماضي ليس بالأمر الهين، فلم يمضي حُباب، ففي كل زاوية اليوم يُوجدُ حباب، يوجدُ رجل في غاية الزهد والبساطة، مجهولٌ ليس على قوائمِ الشّخصيات التي تتم دعوتها لجائزة شنقيط، أو اسمه مسجل في هاتفِ مسؤول رفيع.
فقد كان ظاهرة لن تتكررّ، شخصية مختلفة، تتسم بمستوى عالي من المعرفة والصدق، من الصّعب العثورُ عليها اليوم، فعندما يُغادر حُباب، عن من سوف نسأل؟ أو نذهب لنبحث؟
لم أشعر بالأسف يوماً تجاهّ أيّ موضوع، إلّا في حالتين وكلاهما مرتبطتان بالموت، ربما لسلوكي السيء المتعلقِ بكسلي الدائم عن الكثير من الواجبات في بعدها الإجتماعي، سواء تعلقّ الأمر بأهالي أو أصدقاء، أو من يعني لي شيئاً، فدائماً أنا ذلك الشخص السيء، الذي لا يتصل، لا يبادرُ بالتحية، الذي -حتى لو ألمه ذلك- يعتقد أنّ كل شيءٍ باق، وأنه يمكنُ تداركُ كل شيءٍ لاحقا.
منذ سنواتٍ -حتى قبل أن أسافر- لم ألتقي حباب، لقد كان الواجبُ يملي علي أن ألتقيه دائماً، أن ألتقي ذلك الشّخص الأسر، ذا الحديثِ العذب، الذي يهتم. من أين لنا بهؤلاء؟ عندما يعجبونا، عندما نطرب لحديثهم، ونحنُ محملينَ بتقدير مميّز تجاههم، وهم متاحون هكذا، باتصال، بلقاء لا يحتاجُ ميعاداً؟
لقد ظلتُ أخبارُ حباب تأتي بشكلٍ متقطع، قبل أن يأتي الخبر اليقين، الذي لم يكن أحد ينتظره، أن يتم الإعلانُ فجأة عن رحيل هذا الرمز الأكثر سطوعاً في ماضي هذا البلد الذي لا يتم الحديثُ فيه كثيراً، وبرحيله ستزيدُ العتمة، فقد كان حُباب هوّ الشّاهدُ الوحيد على أنّ هذا الشّعب ناضل ذات يوم!
ذكرى حُباب أعظم من أن تُسطر، إنّها من تلك الذّكريات التي يتمنى المرءُ حملها لنفسه دائماً، إنّها أشبه بصورة تذكارية، لكنها غير مرئية.
عندما اشتدّ مرضه، تقررّت حاجةُ حباب للرفعِ للخارج حيثُ الموتُ أغلى قليلاً من هوّ في البلاد التي لا تُهب مواطنيها غير شبرٍ من الأرضِ محل نزاعٍ بين الموتى، عندما تكتظُ المقابر، فلم يكن جنرالاً تلمعُ على أكتافهِ النجوم، ولا رجلَ أعمالٍ يُخشى على حياتهِ من طول التّمدد والرّاحة المُبالغِ فيها، كان مُجرّد مواطنٍ بسيطٍ جداً، تلك البساطة التي لا تسمح لكَ بأكثرّ من تأخذ تاكسي، أو تسير على رجليكَ ولو اضطرك ذلك للمسير طويلاً، ودون أن تكون لك سيارة.
كان مواطناً ينتمي لألام وأوجاع هذا الشّعب، على الرغم من أن أحداً لم يقاسمهُ أوجاعه وألامه عندما بزغ فجرٍ هذا العبثِ كله، فتغيّر الرفاق، وجدت أحداث سياسية كثيرة، كان كل ذلك لا يعني له كثير، مادامّ هذا البؤس مستشرياً في هذه البلاد العفنة، فلم يطمح لمنصبٍ، أو يتمنى أكثرّ من عملهِ البسيط أيضاً والذي ألفهُ في الإذاعة الوطنية التي ترّجل منها الكثير من الطيبين الذين لم يتم الإكتراث لهم ولرمزيتهم، أفكرُ الأن بالعميد أمادو تيجان بال!
عندما تكون بينهما ذكرى مُشتركة، هل يفكرُ ميتان ببعضهما؟
لقد تقررّ سفر حُباب، وهوّ شيءٌ لم يكن بسيطاً، فلم تكن ثمة أوامر رسمية بمتابعة حالتهِ ورفعه لأحسن المستشفيات في فرنسا، مما قد يمنحُ شخصيةً وطنية وذاكرة شعبٍ بأكمله، تلك الذاكرة النضالية و الثقافية مزيداً من الوقت، فلم يكن يخطط في هذه المدة القليلة التي سيعيشُ أن يستهلك الكثير من رفاه هذه الحياة، لكن لم يحدثّ أيّ شيءٍ من هذا، فهل عليّ أن أفكرُ بالرّفاق؟ أشعرُ بالخذلان!
لم تكن لُحباب قبيلة، لم يكن ابن قبيلة، كان أنتمائه أكبر من ذلك، ولم يكن يليقُ به إلّا ذلك الإنتماء، على الرغم أن الرفاق -وبعضهم في عداد الراحلين- عادوا أخيراً لحضانتهم التقليدية، ومنهم من كان شيخاً، ومنهم من هوّ دون ذلك..
لقد كان سببُ إهماله، أنه لم يحمل يوماً حقيبة لمريم داداه، ولم يندمجّ في الهياكل مُنسقاً على مستوى توجنين، أو تحمسّ بشكلٍ هستيري للحزب الجمهوري وحمل أعلامه في زيارات معاوية لتجكجة، فقد كانت الأنظمة تتعاقب، وهوّ ثابت في مكانه،، قابضاً على الجمر، يُدركّ مدى مسرحية كلّ هذا، فقد كانت طموحاتهُ كبيرة لهذا الشّعب الذي لم يكن يملك شيئاً ليهبه إياهُ سوى هذه العقود الطويلة من الرّفض، والوفاءِ، وكانت المكافئة هذه: أن يرحل وحيداً بعد رحلةٍ لم تكن سعيدة من المرض، ربما احتاج فيها -ولم يكن يعلن يوماً حاجته لشيء- قليلاً من التقدير على الأقل، ليس فقط من طرف مؤسسة خدمها، ووطنٍ عاش من أجله!
صحيح أنه غادر جسده اليوم، لكن ذكراهُ باقية، كصحفيٍ لم يكن موضوعياً تجاه قضايا شعبه، وكمناضل صادق، والأهم كإنسان، نعم كان حُباب أخر إنسان موريتاني!
سقت قبره سحائب الرحمة.