هذا المبنى الصغير (الصورة) الواقع غرب دار الثقافة بانواكشوط كان من أول المباني الحكومية التي ظهرت في العاصمة (كبتال) في نهاية الخمسينيات من القرن الماضي.
ولكن هذا المبنى لو كان في دولة أخرى، على ذلك النحو، لكان محاطا بالحدائق والأضواء؛ متحفا ومزارا رسميا، يتوافد عليه الزوار من الأجانب، ومن تلاميذ وطلاب المدارس ضمن حصص التربية المدنية، وزرع الروح الوطنية.
قبل أيام، قادني الوزير والسفير والكاتب الكبير الأستاذ محمد محمود ولد ودادي إلى ساحة هذا المبنى، وقال وهو يستعيد بضبط ودقة تفاصيل زيارته سنة 1959:
"في الجانب الشمالي من هذه الدار الصغيرة، التي يبدو أنها وُسِّعت قليلا، كان أول مكتب رئاسي للأستاذ المختار ولد داداه الذي يشرف منه على عمليات بناء العاصمة والتحضير للاستقلال الوطني.
وفي وسط سنة 1959 استقبلَنا، وفدًا من طلاب معهد بوتلميت المضربين عن الدراسة؛ جئنا لطرح مطالبنا، وخاصة مساواتنا مع طلاب ثانوية روصو الشهيرة.
كان مكتب الرئيس هنا غرفة صغيرة من هذه الدار الصغيرة، به طاولة واحدة وثلاث كراس متواضعة أحدها للرئيس واثنان للزوار. وكنا خمسة؛ فلم نجلس وظل الرئيس مثلنا واقفا يستمع إلينا حتى ودعنا دون أن يجلس، وكانت تلك عادته".
ويضيف ولد ودادي: كانت هناك أربع بنايات صغيرة مشابهة جنوب دار الرئيس، فيها مكاتب الوزيرين الموجودين معه؛ وهما وزير الأشغال العامة ووزير المالية بالإضافة إلى رئيس الجمعية الوطنية (باقي الوزراء يقيمون في "اندر")، وفي البناية القصوى منها جنوبا محطة الإذاعة الأولى؛ وكانت عبارة عن جهاز إرسال صغير بقوة 1 (واحد) كيلوواط (وهو جهاز كان الأمريكيون قد تركوه في مدينة أطار خلال الحرب العالمية الثانية)"!
وطبعا لم يكن مكيف الهواء، الذي يظهر في هذه الصورة موجودا، يومها؛ بل حدثني العميد ولد ودادي أن الرئيس المختار ولد داداه لم يكن في مكتبه ولا في بيته مكيف هواء ولا برّاد مجَمِّد (congélateur) إلى عددِ سنين بعد الاستقلال، بينما كانت الإذاعة، التي عمل بها وأدارها، من أول مؤسسات الدولة تكييفا قبل ذلك بسنوات!
*
الأستاذ محمد محمود ودادي كاتب وباحث وصحافي من الطراز الأول، قبل أن يكون مديرا عاما وسفيرا ووزيرا. له عدة مؤلفات وبحوث رصينة. وكان ثاني مذيع عربي في الإذاعة الموريتانية مع الراحل محمد الأمين ولد آﮔـاط. التحق بالإذاعة شابا سنة 1961 وظل يرفعها ويترفع فيها حتى تولى إدارتها العامة. وكان له الإسهام الذي لا ينكر في إنارة الرأي العام وبث الوعي المدني والوطني في جيل الاستقلال وما بعده، عبر الإذاعة الوطنية التي كانت منارة الاتصال والتثقيف الأولى في عموم الوطن... وكانت بالطبع صلاته بالرئيس المختار وتطورات بناء الدولة، كثيرة ومباشرة.
حفظه الله وأمد في عمره في صحة وعافية.
ورغم تحفظه وحصافته وإنصافه، لم يُخفِ ولد ودادي أنه كان يتمنى لو أن السلطات القائمة على الثقافة والإسكان والمحلية... حفظت هذا المكان ونظائره من معالم تأسيس الدولة الموريتانية، وميزته ليكون رمزا من رموز الذاكرة الوطنية يشد انتباه الأجيال إلى مبتدأ الدولة الوطنية، مما يقوي شعورهم بالانتماء الوطني.
**
وهذه دعوتي لمعالي وزير الثقافة وفارسها الأستاذ المحترم المختار ولد داهي، وغيره من السلطات المختصة لوضع اليد والعناية بهذا المبنى على الأقل وتنظيفه وترميمه ترميما يعيده لحالته الأصلية، وتحويله إلى رمز ثقافي تاريخي يجاور دار الثقافة والمتحف الوطني؛ خاصة أن تلك المباني كلها هي مبان عامة من أملاك الدولة الموريتانية.
وتمتد الحاجة وينطبق هذا الرجاء على الأماكن "التاريخية" المميزة بأي رمزية وطنية؛ سياسية أو ثقافية أو عمرانية... في جميع مدن موريتانيا ومناطقها الأخرى...
فهل سنجد من يسمع ويتحرك لتنفيذ الفكرة بأي طريقة، أم أن هذا المبنى المهمل سيلتحق في النهاية بالمعالم "التاريخية" الأولى لعاصمة دولتنا؛ مثل بيوت العمارة الطينية التقليدية القديمة في لـﮔصر، ومبنى الركاب وبرج المراقبة في مطار انواكشوط القديم، والتي هدمت واختفت كلها إلى الأبد.. رغم مطالبنا بإبقاء بعض أطلالها على الأقل؟؟!
ولله البقاء والأمر كله من قبل ومن بعد.
م. محفوظ أحمد