لا يفتأ بعض الحالمين من ذريات اليسار ومن يستمعون لهم يقارنون موريتانيا بالجزائر؛ من حيث الأرض، ومن حيث الشعب، ومن حيث الاستعمار، ومن حيث حرب التحرير، ومن حيث الاستقلال...!
وفي كل واحدة من هذه الحيثيات مغالطة كبرى، وأوهام لا تسوغها ضرورة اختلاق "أسطورة وطنية".
فالجزائر بالدرجة الأولى بِنتُ حوض البحر الأبيض المتوسط وبساتين العنب والبرتقال وحقول الزيتون وأشجار الصنوبر...
والجزائر بلد حواضر وأمصار قديمة، تعاقبت على حكمه ـ كليا أو جزئيا ـ منذ العصر الإسلامي، حكومات وإمارات مركزية؛ ابتداء من الدولة الرستمية والدولة الصنهاجية والحمادية... قبل الدولة المرابطية ـ التي كانت أول حكم نظامي في البلاد الموريتانية ـ وانتهاء بدولة الخلافة العثمانية...
والجزائر سقطت في أيدي الفرنسيين تتويجا لعقود من الطمع والغزوات والحملات الأوروبية، قبل أن تخلص للاستعمار الفرنسي منذ 1830م.
والجزائر لم تحتلها فرنسا وتستعمرها فحسب، وإنما أوغلت فضمتها وجعلتها جزءا لا يتجزأ من ترابها؛ فانتقل إليها الفرنسيون بجيوشهم ومؤسساتهم وبقضهم وقضيضهم...
وأخيرا ثارت الجزائر كلها، بدون استثناء، على الاستعمار والضم القسري الفرنسي، وحمل أبناؤها السلاح لتخليصها من فرنسا، وإعادتها لسيادة نفسها كدولة وطنية؛ فقدمت مليونا ونصف المليون من أبنائها في سبيل الحرية والاستقلال...
وأما موريتانيا فابنة الصحراء القاحلة والرمال الحارقة. لم تعرف نظاما ولا سلطة مركزية جامعة، سكانها بدو رحّل أحرار جامحون لدرجة الفوضى...
ثم إن موريتانيا لم يرغب فيها المستعمرون الأوروبيون، ولذلك لم يتجاوزوا شواطئها، وظلت أرضا حرة لا سيادة عليها للأجانب.
ونظرا لموقعها بين المستعمرات الفرنسية رغبت فرنسا أخيرا في السيطرة عليها ولكن بأقل تكلفة وأقل جهد؛ فانتهزت فرصة الفوضى فيها، ومعاناة الناس من السلب والنهب، لتعرض وجودها مقابل بسط الأمن والنظام...
فحدث الانقسام المشهور بين الناس؛ حيث رأى البعض أنه لا يجوز دخول "النصارى" ولا مسالمتهم ولا مساكنتهم، لكفرهم وخطرهم على الإسلام؛ فهبوا للجهاد بالقوة أو بالهجرة، في سبيل الله، لا في سبيل الوطنية ولا الاستقلال...
ورأى أخرون، وهم السواد الأعظم، قبول دخول الفرنسيين ومسالمتهم؛ إما لأنهم عاجزون عن مواجهتهم بالقوة، وإما لأنهم يرون في وجودهم مصلحة ضرورية هي بسط الأمن وحفظ النفوس ومنع المظالم، وتحقيق المصالح الدنيوية بخبرتهم ووسائلهم الجديدة، خاصة بعد التأكد من احترامهم لدين المجتمع وتقاليده وعدم سعيهم إلى نشر ديانتهم النصرانية.
*
وعلى كل حال لم تمض ثلاثة عقود حتى توقف الجهاد المسلح، وعاد كثير ممن رفضوا وجود النصارى وقاتلوهم، ليتبنوا موقف "المهادنين"، وبذّوهم في مسالمة الفرنسيين و"مكاتبتهم" والتعاون معهم لدرجة حمل سلاحهم والقتال معهم!
ولكن ظل هناك نوع من المقاومة ثابتا أزعج الفرنسيين كثيرا وهو المقاطعة الثقافية والمجتمعية لهم ولقيمهم ومدارسهم...
*
وهكذا لم تعرف موريتانيا مقاومة "وطنية" من أجل الحرية والاستقلال، وإنما عرفت جهادا في سبيل الله ضد النصارى (الكفار) لا دخل فيه ولا وجود لمفاهيم الدولة والمقاومة الوطنية والاستقلال والاستعمار... وتوقف ذلك الجهاد المسلح كلية بحلول سنة 1934م.
*
والحقيقة أن موريتانيا لم تعرف استعمارا حقيقيا ولا احتلالا عسكريا فرنسيا قاهرا، لأن فرنسا طوال وجودها في هذه البلاد لم ترسل إليها "جنديا" واحدا من جنودها الأفراد المقاتلين؛ وإنما كانت ترسل ضباطا وضباط صف تتألف وحدات أفرادهم من السكان المحليين (گـوميات) أو من الأفارقة المسلمين المكتتبين من الدول المجاورة (الرماة السينغاليون)، وكان الجميع يتبع للإدارة المدنية بالسينغال، وليس لقيادة الجيش الفرنسي!
كذلك لم تُقم فرنسا أي منشآت عمرانية ولا زراعية ولا صناعية يقتضيها الوجود الاستعماري على نحو ما فعلت في البلاد المجاورة، وحتى ضباطها وموظفو إدارتها القلة لم يسمح لهم باستقدام عائلاتهم، فضلا عن المدنيين الفرنسيين ومصالحهم ومؤسساتهم...!
فأين هذا من استعمار الجزائر الذي يريد بعضنا أن نماثله أو نضاهيه؟!
صحيح أن الدولة في نظر البعض تحتاج لأساطير ثورية تثير الحماس وتوقد الروح الوطنية، تعلي قيمة الاستقلال وتضخم أثمانه، وهو أمر رغم أهميته ووجاهته المبدئية، لا يجوز أن يصبح وسيلة للأكاذيب وتزوير التاريخ، وربما كان هدفه الحقيقي اختلاق الأمجاد القبلية والجهوية لأغراض خاصة وشخصية أحيانا!!
كما أنه من الخطأ والحماقة التقليل من شأن الاستقلال الوطني وقيام الدولة، أو الشعور بالنقص، إذا لم يكن الاستقلال والحرية أخذا غلابا وبتضحيات بشرية مدوية!
**
عندما قررت فرنسا عرض الاستقلال على مستعمراتها الافريقية بعد مؤتمر برازفيل (1944) كمكافأة لها ـ في الظاهرـ على الإسهام في الانتصار على النازية، كانت موريتانيا من بين تلك المستعمرات.
ومع ذلك لم يكن الاستقلال هو الخيار الاول لجميع الموريتانيين، بدليل تصويت أغلبيتهم بـ"نعم" للبقاء في الحوزة الفرنسية، في استفتاء 1958م المشهور.
إلا أن مجموعة من الأطر بزعامة المحامي المختار ولد داداه عملت منذ ذلك الوقت؛ بل قبله، على المطالبة بالاستقلال والإعداد له.
فقد كتب ولد داداه سنة 1954م، في رسائل نشرتها السيدة "ميريل مانشي" (ابنة الأسرة التي كانت تؤويه خلال دراسته في Nice بفرنسا) يقول: "لقد فعلت وأفعل وسوف أفعل كل ما هو ممكن في حدود طاقتي البشرية لكي أصل الى هدفي المنشود ألا وهو استقلال بلدي".
وقد واصل الرجل سعيه مع مجموعة من الوطنيين الأوائل، بالتعاون ـ لا التصادم ـ مع الإدارة الفرنسية من أجل الاستقلال الذي تحقق رسميا في 28 نوفمبر 1960 بكامل الإرادة والتشجيع من فرنسا نفسها.
"الكادحون" والناصريون: أول مقاومة وطنية!
ومن المفارقات أن الاستقلال رغم شعاراته واحتفالاته لم يكن كاملا ولا مثاليا بسبب بقاء الهيمنة الفرنسية، وربما ازديادها؛ على الأقل في جانبها الثقافي اللغوي والسياسي. الأمر الذي خلق أول "مقاومة وطنية" حقيقية ضد الاستعمار الفرنسي الجديد غير المباشر، رغم أنه كانت له أسبابه ومحتماته.
فجّرت تلك المقاومة وقادتها بنجاح حركة الكادحين، ثم طلائع العروبيين الناصريين، وخاصة المعلمين الأوائل.
ورغم سلمية تلك المقاومة الوطنية، فقد كانت قوية وفعالة.
*
أعلن الاستقلال وميلاد أول دولة موريتانية في ظروف منافية له تماما؛ حيث لا عاصمة ولا منشآت ولا أطر ولا جماهير مهتمة...
وفي ذات الوقت كانت دولة المغرب تعارض ذاك الاستقلال وتطالب رسميا بموريتانيا كجزء من أرضها، وذلك بقيادة ـ ويقال بتحريض ـ نفر من علية أبناء موريتانيا المعارضين للمختار داداه ورفاقه. وفيما بعد انضم لهذه المعارضة وزراء من حكومة المختار نفسه، في ضربة قوية للكيان الوليد، تضاف لضربات حزب النهضة الموالي للمغرب والذي ناضل، وربما حمل السلاح، لمنع أو عرقلة قيام الدولة الجديدة.
وقد بلغت المخاوف من سعي معارضي ولد داداه و"استقلاله" وأنصار المغرب الذين كان يجمعهم "حزب النهضة" حد اعتقال بعضهم وإبعاده إلى مناطق نائية في الداخل، حتى مرت بسلام احتفالات إعلان الاستقلال التي حضرها عدد كبير من الضيوف الأجانب، بينهم رؤساء دول ورؤساء حكومات.
*
كان المختار ولد داداه رجلا وطنيا وقوميا اشتراكيا، ولكنه لم يكن عاطفيا ولا ثوريا صاخبا، وأكثر من ذلك كان لا يخفي محاباته لفرنسا والامتنان لها على منح الاستقلال ودعم الدولة الوليدة المعدمة، والحديث الرسمي بلغتها...
وكان هذا من أشد المآخذ عليه من النخبة الناشئة المنبهرة بالخطاب الثوري اليساري الذي كان على أشده يومها في بقاع العالم.
غير أن الحقيقة على الأرض أثبتت أن ولد داداه كان بقدر ديكتاتوريته ومجاراته للفرنسيين، صبورا وطموحا وحازما في قراراته. فقد اختلق دولة من العدم، في بيئة تعادي النظام والسيطرة. وبعد اشتداد عود الدولة بدأ في تنفيذ طموحاته السيادية رويدا رويدا؛ فراجع اتفاقياته مع فرنسا، وتحداها بخطوات متدرجة؛ مثل تحجيم البث الفرنسي في الإذاعة الوطنية، وإدخال التعريب في التعليم، والاستغناء عن دعمها المالي بالتقشف... ثم صعّد إلى تأميم معادن الحديد وصك عملة وطنية دون تنسيق ولا حتى إشعار لفرنسا.
فحققت هذه القرارات نقلة سياسية واقتصادية هامة في الدولة، جعلت الجزء الأكبر من النخبة الشبابية اليسارية المعارضة (الكادحين) تنضم إليه وتشاركه السلطة.
وفي الحقيقة لم تكن تلك هي المفارقات الوحيدة في سياسة المختار، بل إنه مع صداقة فرنسا وحلفائها في إفريقيا الغربية، كان يدير حكمه بنظام اشتراكي، يقوم على رعاية الدولة للمواطنين؛ فكانت الصحة والتعليم مجانا، والحكومة تدعم المواد الغذائية وتراقب الأسعار والإيراد والتصدير، وتبني المساكن الاجتماعية...
وهناك تسيير صارم وشفاف لأموال الدولة وممتلكاتها، وتنفير وتحذير من القبلية والجهوية...
وعلى الصعيد الديبلوماسي كان ولد داداه خارجا على المنظومة الفرنسية، من خلال حملاته ضد "إسرائيل" في إفريقيا، والقضاء على الاستعمار والفصل العنصري في جنوب القارة، وأدواره في حركة عدم الانحياز، وعلاقاته الشخصية والرسمية النشطة مع زعماء دول لا تحبهم فرنسا؛ مثل مصر عبد الناصر، ويوغسلافيا والصين وكوريا الشمالية ورومانيا وكمبوديا... الخ.
إلا أنه كانت للرجل طموحات قديمة لم ينسها، وهي توحيد مجتمع "البظان" في الدولة الجديدة، باعتباره تاريخيا واجتماعيا وجغرافيا كيانا واحدا لا ينفصل.
وهو طموح كان أكبر من قدراته الحقيقية. فقاده ذلك إلى فخ الحرب بعد اتفاقية مدريد بين موريتانيا والمغرب التي أنهت الاستعمار الإسباني للصحراء الغربية.
ولم تكن موريتانيا مستعدة للحرب ولا قادرة عليها ولا متوقعة لها، ومع ذلك خاضتها ببسالة ولم تهزم فيها ولم تخسر أي شبر من الجزء الذي انضم لها، حتى خرجت منه بإرادة جيشها بعد الإطاحة بنظام المختار في 10/07/1978م.
*
ولكن هنا بدأ عهد الانقلابات العسكرية والتهارش على السلطة الشخصية. فارتكست البلاد وتوقف نمو الدولة الوطنية القائدة التي ترعى الجميع ويخدمها الجميع، لتصبح غنيمة شخصية لأي عسكري انقلابي، وتحولت نخبها المدنية إلى أدوات لسلطة الاستبداد وحقول للفساد... وما يزال الأمر كذلك إلى ما شاء الله...
م. محفوظ ولد أحمد