بين يدي 28 نوفمبر

دولة "الأملاز" ولد داداه أو دولة فرنسا أو دولة إبليس نفسه... لا يهم، بل المهم أنه أصبح في هذه الفيافي كيان معنوي مركزي له الأمر والنهي، باسم المصلحة العامة التي يستوي الجميع ـ نظريا ـ في ظلها.

أهم المكاسب العاجلة أن هذا الكيان نزع السلطة والسطوة الجبرية ـ بدون إساءة ولا إثارة ـ من شيوخ القبائل والإمارات الذين توارثوها أو تنازعوها أبا عن جد، ووضع حدا لتاريخ طويل من الفوضى والخوف والظلم والنهب والدماء الزكية المراقة لأتفه الأسباب بين الجميع؛ بل بين الرجل وأخيه وأبيه وفصيلته...

**

انتعشت التجمعات المختلطة وظهرت مدن دلف إليها الشباب الحالمون بعالم جديد تلوح بروقه وتفوح روائحه من أجهزة "الترانزيستور" وصفحات المجلات والجرائد... لتبدأ حياة جديدة طافحة بالآمال والأحلام والحرية والاستقرار، وتخطي حواجز العصبية العمياء.

حاولت السلطة السياسية جمع المقومات المادية والمعنوية للدولة، بما فيها الرموز الوطنية والتاريخية، فخلدت أسماء مجاهدين باعتبارهم قادة "مقاومة وطنية ضد الاستعمار"، مع أن مفاهيم الاستعمار والاستقلال والوطنية لم تدخل خلد أحد في هذه الأرض قبل خمسينيات القرن الماضي؛ بينما توقف الجهاد المسلح والهجرة عن الكفار، في بداية الثلاثينيات؛ حينما أيقن المجاهدون وأهل النظر أن الفرنسيين لا يسعون ـ في ذلك الوقت على الأقل ـ إلى التنصير أو التدخل في دين الناس وأعرافهم.

ثم جاء العسكر وأنهوا مشكل الحرب، ولكنهم استحْلَوْا السلطة، فتعاوروها بالانقلابات. واستعانوا، تباعا، على ما واجههم من الخوف وانعدام الشرعية وانعدام الكفاءة... بالاعتماد على الأنظمة القبلية ووسائل الفساد لشراء الذمم والولاء... الخ.

ولكن ظل موقف الحكام العسكريين من النظام الأول المؤسس للدولة، وشخص رئيسه المرحوم المختار ولد داداه، التجاهل التام والصمت، بعد خروجه من سجنه المهين إلى منفاه المفتقر. فكان ـ بعد مرحلة التشويه الأولى ـ يحظر ذكره بخير أو شر؛ وهو أسلوب كل انقلابي مع سلفه!

إلى أن جاء أسوأ وأغرب انقلاب عسكري في 2008 الذي أطاح بأول رئيس منتخب ديمقراطيا، ولأسباب شخصية تافهة.

في اللحظات الأولى، وسعيا إلى ما يخفف غلواء الاستنكار والدهشة، كسر ولد عبد العزيز ذلك "الحظر"، فترحم على ولد داداه، ثم أطلق اسمه على شارع كبير في العاصمة.

لكن تلك "اللفتة" لم تطل... حيث اتخذ ولد عبد العزيز، بإملاءات من محيطه السياسي على الأقل، من حكاية "المقاومة الوطنية" سوطا لم يسلط على ولد داداه فقط وإنما كذلك على محيطه القبلي والاجتماعي والتاريخي.

وبما أن "المقاومة الوطنية"، كانت ـ وينبغي أن تظل ـ رمزا وطنيا عاما لا يجوز تفكيكه ولا تجزئته أو تركيزه في جهة أو مجموعة... لأسباب موضوعية ذكرناها سابقا، فقد أدت محاولة استغلاله إلى بعث وإنعاش للضغائن والخلافات القبلية... ما تزال تجر ذيولها الآن!

ولكن بسبب الخلافات والمهاترات العشائرية حول أحداث التاريخ واختلاط الروايات التاريخية بالأمجاد القبلية وأحيانا بالأساطير والخرافات، وما أثارته من حساسيات؛ خاصة بعد تسمية المطار الجديد "أم التونسي"، ركز النظام وأزلامه على النيل من الرئيس المؤسس وجيله، والتقليل من دورهم، لدرجة التخوين والرمي بالعمالة لفرنسا... وكأن فرنسا صارت خبرا بعد عين!

الواقع أن ذلك هو جوهر ما نالته المقاومة من الابتعاث والتكريم!

**

السمة البارزة في حكم ولد عبد العزيز هي التملك الشخصي لأدوات الحكم وإنتاجه؛ فالمطار مطاره الشخصي، ورموز الدولة ومدارسها وعقاراتها... كلها تراث أو ميراث شخصي للرجل؛ له وحده حق التصرف فيه كيف شاء، مع درجة مذهلة من الجفاء والاحتقار تجاه الشعب الموريتاني بشكل عام.

ومن هنا يفهم لجوء ولد عبد العزيز إلى أسلوب هدم وطمس المعالم المادية لمرحلة التأسيس، وتغيير الرموز الوطنية للدولة... إما لدواعي شخصية طمعا في إبقاء وجوده، وتصديقا لوهم "التأسيس الثاني"؛ بل الأول عند بعض متملقيه! 

وإما أن كل ذلك جزء من الحملة الغريبة على ولد داداه ومرحلته، التي لم تكن وردية؛ بل كنا نعدها من السوء والمكروه، قبل أن نرى ما رأينا بعدها!

اليوم، ورغم الانصياع الظاهر في البداية لقوة الدستور بترك السلطة، وانتخاب رئيس جديد، ما يزال الرئيس السابق، فيما يظهر، يؤمن بنفس فكرة تملك الدولة وحق التصرف والتصدر في شأنها... بل ربما الحق في استعادة رأسها إذا اقتضى الأمر!!

إلا أن استسهال ذلك، والتعويل على عصابته السياسية التي اختلقت عظمته فصدقها، واتكاله على ولاء خلفه أو "ضعفه" قد أدى به إلى إساءة تقدير تقلب السلطة، وقبل ذلك إساءة ما كان يخاله ولاء ملكيا مطلقا للشعب الموريتاني!

اليوم، ورغم الغلول والمكاسب المادية الهائلة التي حققها ولد عبد العزيز لنفسه ومن يليه، وراهن على معادلتها لأي سلطة تنازعه عرش هذه الدولة، التي لعب برموزها وقدراتها، يبدو الرئيس السابق في وضع دقيق جعله على شفير المغامرة بكل شيء من أجل استعادة "دولته"، أو خسارة كل شيء... وربما التعجيل بمواجهة حساب حافل وخطير أمام القضاء.

أربعاء, 27/11/2019 - 15:51