كان هذا العنوان موضوعا لندوة أدارتها القناة الثقافية يوم الثلاثاء الماضي الموافق للخامس عشر من الشهر الجاري، ورغم أن العنوان يبدو عليه بريق البهرجة الإعلامية من خلال آثار مساحيق التجميل التي تحتفظ بها عادة الصالونات في الكواليس الخلفية، ورغم أن الحضور الرسمي كان من الخطوط الأمامية في القطاعات المعنية وقد اختير بعناية لجاذبيته الجماهيرية، ورغم أن الموضوع المطروح كان ذات يوم يعني للموريتانيين الهوية والذات والأصل والفصل، إلا أن هذا كله لم يساهم في الرفع من نسبة الحضور الذي كان يعد على رؤوس الأصابع وقد اقتصر على موظفي قطاع محدد، قد يصح أن يقال فيه إنه من النوع الذي خف حمله وعظمت قيمته، فهذا وارد جدا، فهم أهل مكة والمكيون أدرى بالشعاب، وغياب الحضور هنا لا أقول إني أرى فيه ما لا يرون، حتى لا أنعت ببعض الأوصاف المعلبة والتي تنتظر التوزيع بسخاء، ولكنني أعتقد أن الجميع ـ بما في ذلك أولئك الحاضرون ـ بات يدرك تلك الرسالة التي لا يبدو أن الجهاتِ الرسميةَ مستعدةٌ لاستيعابها في الوقت الراهن، حيث تفضل تلك الجهات أن تبالغ في عرك التراب على طريقة النعامة، فالدولة التي لا تزال تعجز جامعاتها عن استيعاب الشباب في ريعان أعمارهم، والتي لا تزال تتجاوز الأمية بين ساكنتها حدود 60 %، وقد استقرت في ذيل قائمة دول العالم حسب تصنيف المنظمات العالمية المختصة بجودة التعليم، والتي لا تزال وتيرة التسرّب المدرسي تعيش تسارعا فيها ينذر بالكوارث ويرعب ليل الآمنين، هي الدولة التي لا تزال مستعدة لتنفق ميزانيات ضخمة (45,800 21,7 60,4 أوقية سنة 2021 ) من أجل أن يبقى جزء من تعليمها تقليديا، إنها مفارقة المفارقات التي تستعصي على التفسير، إن الرسالة التي خطتها الكراسي الفارغة في قاعة فندق أتلانتيك في تلك الأمسية تقول عباراتها بوضوح لا لبس فيه إنكم تفكرون في أشياء لا تعنينا نحن الموريتانيين البتة ..!
صحيح أن المحضرة جزء من ماضينا وقد نفخت فينا من روحها وأرضعتنا المجد صرفا والعز سلافا، ولم تقصّر في بنائنا الروحي والقيمي يوم أن كانت قادرة على إشباع حاجاتنا المعنوية والروحية والمادية، فكانت قبلتنا ومهوى أفئدتنا، ويوم أن كانت تمتهن العطاء المدرار، دون أن تعبأ بفراغ يد راعيها الذي لم تعرف الرواتب أو المخصصات المالية أو المعونات إليه سبيلا، ومن غير أن يقف ذات يوم أمام الأبواب لاستدرار عطاء الجهات الخيرية، ولكن صيرورة الحياة تقتضي أن نسير في الركب، فتلك سنة الله في خلقه التي لا تحابي مؤمنا ولا كافرا ، ولا تبديل لسنة الله ، لقد اقتضت سنة الله أن تكون وتيرة الحياة في سيرورة لا تعرف التوقف ، فكل شيء يتغير، فأساليب النقل تتغير وأساليب العمران والعيش والتفكير تتغير وتتبدل، وكذلك مفاهيم التعلم تتغير وفلسفته وطرائق تدريسه تتبدل وتتغير، وسنة التغير هي التي جاءت إلينا ذات يوم بالمحضرة قبل قرون خلت، وهكذا الحياة نهر يتدفق لا تكاد تغرف منه مرتين ..
لقد أخذت المحضرة مفهوم التعلم وفلسفته من ثقافة باتت جزءا من الماضي ، ثقافة جعلتنا نُقصي البحث العلمي، و ننكفئ على المتون نمطّط لها مساحاتِ التخزين في الذاكرة ونؤكد لها بعد ذلك أننا مُوسعون، نحفظ كل شيء، ونبالغ في حفظ المستطرف والقواميس وكتب التاريخ والأخبار لا لفائدة ننفع بها المجتمع وإنما ليقال إن فلانا "ولد ازوايه"، هي نفسها الثقافة التي جعلتنا نغط في سبات عميق لم نصحُ منه إلى على عويل مدافع نابليون تدك أقوى مراكزنا القومية والدينية ثم تساقطت البلدان الإسلامية بعد ذلك في أيدي العدو بسهولة متناهية، وإذا كانت المراكز الإسلامية العملاقة في عالمنا الإسلامي كالأزهر الشريف، والزيتونة، والقرويين قد أدركت في وقت مبكر نسبيا أن تلك الأساليب باتت من الماضي فغيرت في مناهجها وأساليب تعليمها، فإننا نحن في موريتانيا ما زلنا نتقلب في ثنايا التاريخ، ونرقد بين عرصات الماضي ، ننفق بسخاء على ثنائية المعاصرة والتقليد؛ ننفق على التعليم ليظل تقليديا إلى جانب تعليم معاصر مُشوّه، ثنائية كان حصادها على غرار حصاد الغراب من تقليده المزعوم ..!!
لقد أثبت علم النفس التربوي أن التعلم يقاس بالتغير على مستوى السلوك وليس بمقدار "صب الماء في الدلو"، إن تغير السلوك هو المؤشر الصحيح على التعلم، وليست كمية الكتب التي تتلى أو تحفظ ، والسلوك هنا هو السلوك العملي على مستوى التطبيق والممارسة، ولقد أثبتت الأدبيات التربوية أن التعلم ينبغي أن يكون لغاية ، وليس مجرد التعلم لذات التعلم .
إن الحفاظ على الإسلاَم مظهرا وروحا في المجتمع يمثل لنا غاية الغايات التي يجب أن يبذل الجميع من أجلها الغالي والنفيس ، لكنها لا تعني أن نظل في جلباب التاريخ تغمرنا المفاهيم الضيقة وتتعاطنا المقولات المغلوطة، وإن الإسلام نفسه لهو دين الحيوية والجدة والعصرنة، وواقعنا المعيش يقول إننا أكثر خلق الله حاجة إلى متعلمين يستطيعون تقديم رؤية معاصرة سليمة في القضايا الحضارية المستعصية؛ كنظام الحكم، والديمقراطية، والحرية، والعدالة، والنظم المالية، والسياسة الدولية، والاستقلال الذاتي، وإلى فتاوى عصرية تراعي مستجدات الحياة ومتطلبات العصر .. وهي أمور لا يمكن أن تتخلّقَ إلا في رحاب الجامعات العصرية التي تأخذ بالأساليب الحديثة في التربية والتعليم بعيدا أن الأساليب التلقينية المهترئة، إن حاجتنا إلى ذلك أكثر من حاجتنا إلى الفتاوى أو بعض الأحكام المفصلة على واقع العصر المملوكي أو دويلات الطوائف بالأندلس .
إن فشل البلاد في التنمية لا يبدو مستغربا إذا ما تأمل المرء في الخارطة التعليمية التي تبدو ممزقة بين وزارات متعددة، وكأنها تَتغيَّى استرضاء مافيات أو مرتزقة متغولين ، قد اتفقوا على التهام الأخضر واليابس، إنه الخلل الذي ينبئ عن غياب التخطيط وغبش الرؤية ، وفوضوية الأهداف، ولا جرم إن أصبحت البلاد في النهاية عاجزة عن إيجاد أي شكل من أشكال التنمية، بل وعاجزة كذلك عن توفير الأمن للجوعى والمقهورين في بيوتهم، أو حتى إلى قبورهم ..!!
وأخيرا إن التخطيط يختصر المسافات ويرتب الأولويات، ولو خططت الدولة لتعليمها الإسلامي بعناية وراعت فيه الكيف على حساب الكم، لاستطاعت إيجاد مؤسسات تعليمية حديثة تستوعب شبابها وتعمل على تكوينه لحاجات السوق الوطنية والإقليمية والدولية، ولاستطاعت أن توجد مؤسسات معاصرة تأخذ بالأساليب الحديثة في التعليم ، وقادرة على تقديم العلوم الإسلامية بأسلوب عصري جذاب ، تستلهم الميزات والخصائص التي يصلح استلهامها من المحضرة، دون أن تضيع الجهود سدى في استنساخ تجربة لم تعد قادرة على الحياة، أو يتمْ التفريط في الأساليب والطرق التي أثبت العلم نجاعتها ..
يحيى ولد البيضاوي