مثلت "صيحةُ المظلوم" واتحاد عمال "ميفرما" واتحاد الطلبة الموريتانيين والحركة الوطنية الديمقراطية (حزب الكادحين) فيما بعد، أيقونةَ النضال التحرري الوطني على جميع المستويات: السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية نهاية الستينيات وبداية السبعينيات من القرن الماضي.
كانت الإضرابات عامل ضغط للتغيير ولكسب الحقوق، ولصيحة المظلوم الدور التوعوي التنويري، وللقصائد دور التحشيد وإثارة الحماس للهم الوطني. عوامل ثلاثة لعبت دورها النشط رغم إكراهات السرية ومراقبة وظيفة الإعلام "السمعي والمرئي".
كان للوثيقة التي أصدرتها قيادة القوميين العرب (حررها الحكيم جورج حبش) في اجتماعها بعد نكسة 67 تحت عنوان: "تحليل منطقي للنكسة.. الثورة العربية أمام معركة المصير" الدور المحوري في نشأة الحركة الوطنية الديمقراطية.
توصلت هذه الوثيقة إلى أن سبب النكسة ليس العامل العسكري، وإنما عجز قيادات الثورة العربية بسبب تكوينها الطبقي والإيديولوجي والسياسي والبرجوازي الصغير، بما في ذلك جمال عبد الناصر الذي تبنوا شعاراته وناصروه، وهذا يتطلب حسب الوثيقة: "ضرورة انتقال القيادة إلى الطبقات والفئات الاجتماعية الكادحة الأكثر جذرية والملتزمة بالاشتراكية العلمية".
انبرت للترويج لنتائج هذا المؤتمر عدد من النشرات المعروفة خصوصا: "الحرية"، "الثورة".. وكانت تُرسَل لكل المعنيين ومن بينهم طبعا القائد الملهم المرحوم "سميدع".
ومن بين البنود التي توصلت إليها الوثيقة أو "تقرير تموز"، كما عرفت لاحقا، تفعيل بند "المركزية المرنة"، الذي سمح بل وَجّهَ إلى عقد مؤتمرات قطرية تبحث الواقع وتتوجه للمستقبل، وهو ما نتج عنه مؤتمر "توكومادي" سنة 68.
جاء انعقاد هذا المؤتمر على شكل مراجعات في الطرح والتفكير والتوجه بالنسبة للرفيق "سميدع"، ليس بدافع النكسة فحسب، بل للحوارات العميقة التي جمعته في السجن، بعد أحداث 66، بكوكبة من مكونات الوطن المختلفة، تشاطره استشراف المستقبل الجامع للوطن وهمومه، وكذلك بعد جولة في عموم التراب الوطني تشبه رحلة الثوري "غيفارا" وصديقه "غرانادو" التي جابا فيها جميع أمريكا اللاتينية على دراجة نارية.
جاء هذا المؤتمر الذي بلور أفكارا وتصورات وطنية خالصة نابعة من الواقع المحلي ومعوقات الخروج به من التاريخ إلى الحاضر وبالتالي إلى المستقبل، ليحضر لمؤتمر آخر أوسع وأشمل هو: مؤتمر كيفه (عام 69) المعلن لتأسيس "الحركة الوطنية الديمقراطية" بالتزامن مع تفكك "حركة القوميين العرب" وتأسيس عدة كيانات وأحزاب في كل الدول العربية - تحت تأثير تعدد التوجهات - مثل: التجمع الوطني الناصري بقيادة جاسم القطامي من مصر، الحركة التقدمية الديمقراطية بقيادة أحمد الخطيب من الكويت، منظمة الاشتراكيين اللبنانيين بقيادة محسن إبراهيم، حزب العمل الاشتراكي العربي الذي أراد له الحكيم جورج حبش أن يكون مرجعية جامعة لهذه الكيانات ووو...
يقول جورج حبش - منظر ومنسق حركة القوميين العرب - في افتتاحية مجلة "طريق الثورة": لقد انتهت حركة القوميين العرب كحركة ثورية في الأقطار التي عملت فيها، أما الفروع القطرية فلم تنته.
يشار في هذا الصدد، إلى أن بداية الانشطار في حركة القوميين العرب بدأ سنة 64 عندما تبادل تياراها أوصاف: "اليسار الراديكالي المراهق"، و"اليمين البرجوازي"، بعد أن طرح محسن إبراهيم - ممثل القوميين العرب في لبنان - تنظيرا ثوريا، يناقض لحد ما مفاهيم الأمة والوحدة عند قسطنطين زريق، يقوم على التلازم العضوي ما بين النضال القومي والنضال الاشتراكي.
في هذه الفترة بالذات (عام 68) كان المد اليساري في أوج ازدهاره وتمدده، وكان وعي الشعوب على مستوى العالم وبالأخص القابعة تحت سيطرة الأجنبي يتمرد على كل ما هو قديم وتقليدي تغذي طموحاته عدة أحداث:
- طرد "الجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن" للوجود الاستعماري البريطاني وإعلان الجمهورية اليمنية الجنوبية الشعبية برئاسة قحطان الشعبي.
- انتشار كتاب الفيلسوف الأمريكي "هربرت ماركوز" الناقد للرأسمالية العالمية من داخلها "الإنسان ذو البعد الواحد"، الملهم لثورة الطلاب 68.
- ثورة الطلاب في فرنسا بشعاراتها: الحرية والعدالة الاجتماعية. وهي الثورة التي أبانت عن وعي مشترك بين الشباب في العالم وأنه كجيل واحد.
- التفاعل الخطير على مستوى العالم مع أفكار تروتسكي: "الثورة الدائمة"، وهي دعوة لمواصلة النهج اللينيني الذي أوقفه استالين بفكرته: "دولة اشتراكية واحدة".
وقبل هذا وفوقه: صعود السوفييت، وهم الاشتراكيون الشيوعيون، إلى القمر عام 1961.
كما أن تجارب ثورات اليسار ما بعد الخمسين من القرن الماضي تلهم وتلهب حماس الشباب وحتى الكهول: افيتنام تخوض حربا شرسة ضد أمريكا، مستعينة بانتصارها التاريخي على الفرنسيين في معركة "دان بيان فو"، فيدل كاسترو يذيع خطبه الثورية ويبعث صديقه غيفارا سفيرا فوق العادة يبشر بالاشتراكية الكوبية في كل مكان، كيم إيل سوغ في كوريا الشمالية يفخر بانتصاراته على اليابان وتحرير كوريا من سيطرتها، ونظريته المفردة "جوتشي" (الاعتماد على النفس في كل شيء)، ماو تسي تونغ بعد تجربته النووية الناجحة يبدأ الثورة الثقافية في الصين، ويعتبرها الثورة الثانية بعد المسيرة الحمراء (عام 48)، والمكتبات تعج ب"كتابه الأحمر" المكون من 33 فصلا تبدأ ب "الحزب الشيوعي، الصراع الطبقي... وتنتهي بالثقافة والفن والدراسة".
وللعلم؛ فإن الكتاب الأحمر ل"ماو" الصادر عام 1964 سبقه بثلاثين سنة: "الكتاب الأحمر" لقسطنطين زريق 1933 الذى اعتبرته جماعة القوميين العرب "ميثاقا" لها حتى لقبوا ب"جماعة الكتاب الأحمر".
كان لثورة الطلاب في فرنسا انعكاس إيجابي على الحركة الوطنية الديمقراطية حديثة النشأة، فانضم إليها ما يعرف ب"جماعة باريز"، وهي جماعة متنورة تمثل الوجه الموريتاني المتكامل، عايشت ثورة الطلاب في مدينة الأنوار، واختلطت بمختلف الثقافات في ردهات الجامعات، ما أعطى زخما للحركة.
يشار إلى أن انتشار الحركة السريع وتمددها الملفت على مستوى الوطن نابع من محليتها وانطلاقها من واقع الوطن الاجتماعي والثقافي والسياسي، وليس عن طريق التصورات والمقدمات الذهنية الخارجة عن حال الوطن.
بعد الانفتاح على الشباب، الذي قامت به الحكومة تحت عنوان "السياسة الجديدة للشباب على شكل ندوات وحوارات"، أجرت الحكومة إصلاحات كبرى كانت على رأس مطالب الحركة، ووعدت بمواصلة الإصلاح والتشاور الشعبي، وتم انتخاب مجلس أعلى للشباب كهيئة استشارية، حلت الحركة نفسها واندمجت في حزب الشعب بعد استفتاء جاءت غالبية نتائجه لصالح: "نعم للاندماج".