أخيرا خرج وزير التهذيب الوطني من صمته الذي دام قرابة سنتين.حاول خلالهما إشراك جميع الفاعلين في القطاع لتطويره بأساليب تمكنه من الاستغلال الأمثل للموارد المتاحة ؛ لكن النقابات كعادتها ؛ شكلت حجر عثرة أمام كل خطوات الوزير الرامية لتطوير الموارد البشرية لقطاعه؛ فتجاربها السابقة جعلتها تحسن اللعب بعامل الزمن لتمرير أجندتها المرسومة سلفا من قبل سياسيين لايشكل التعليم ألوية بالنسبة لهم.
لقد نجح أصحاب النقابات -ولو مرحليا- في تشويه صورة الوزير وإظهاره في موقف ضعف يعجز صاحبه عن تطبيق تعهدات رئيس الجمهورية في مجال التعليم في مرحلتيه الابتدائية والثانوية.
والحق أن هذا التشويه أصبح جزءا من استراتيجيات هدفها الأساسي هو إعاقة كل إرادة لإصلاح التعليم؛ وجعله مجرد مزاد علني لنفوذ المتسيين والنقابيين؛ وفي ذلك سعي واضح لخلق منافذ للنقد غير البناء لسياسات السلطة الحاكمة التي تعيقها النقابات في كل مرة تحاول قطع خطوة إلى الأمام في مجال يعد اللبنة الأساسية لكل المشاريع التنموية .
ثمة مفارقة يصعب فهمها لشبهها بثنائية ( عر وتاره) وهي أن النقابي يمارس التصعيد لأجل التفريغ وحين يتم تفريغه يخلق أساليب متطورة للتحريض تأخذ أشكالا متعددة كالتلويح بالاضرابات وتشويه صورة الوزير لدى المدرسين ؛ المهم أن يتمكن النقابي من زرع نوع من عدم الثقة بين المدرس والوزير عازفا على وتر فارق العلاوات؛ رغم نبالة المهنة.
الظاهر أن معالي الوزير قرر أول أمس في دار الشباب القديمة الضرب بلغة الأرقام مفجرا بذلك قنبلة من العيار الثقيل كان النقابيون يريدون لها أن تظل طي الكتمان لأنها ستكون بمثابة الصفعة التي ستسحب البساط من تحت أقدامهم إلى الأبد .
معالي الوزير كان صريحا حين قال إن هناك نسبة تقدر ب 4% من المدرسين فقط هي التي بإمكانها تدريس 80% من المناهج التربوية؛ بحسب دراسات أعدتها مكاتب دولية محايدة.
منهجية الضرب بلغة الأرقام ستكشف الكثير من الحقائق التي أريد لها أن تبقى بعيدة عن أنظار أصحاب القرار . يتعلق الأمر هنا بحقيقة طال ما أخفاها النقابيون وهي أن معلمي الميدان حرصون بطبعهم على كل ما من شأنه أن يكسبهم معارف ومهارات جديدة ..فتجربتي في الداخل التي تفوق عقدا من الزمن مكنتني من معايشة معلمين في ولايات مختلفة..كنا دائما نثير نقاشات تمس الإشكال في الصميم؛ حين كان بعضهم يطرح بكل تجرد سؤالا جوهريا مفاده من المسؤول عن ضعف مستويات طواقم التدريس؟ وهل للدولة إرادة جادة في تحسينها؟ .
هذه التساؤلات سمعتها في آدرار وفي كوركول وفي لعصابة. و اترارزة.أثناء حديث المقرئين الليلي على شاي العتمة.
لاشك أن لغة الأرقام ستدخل الوزير في صراع جديد سيأخذ أبعادا كثيرة؛ ولعل تنديد منسقية التعليم الأساسي بتصريحه ومحاولتها تفسير كلام الوزير بأنه لم يقلل من شأن المدرسين فحسب؛ وإنما أساء للمفتشين ولمدارس تكوين المعلمين.هو نوع من الدفع بالوزير للمواجهة مع إدارات حيوية في وزارته؛وهي الطريقة ذاتها التي تم التخلص بها من وزيرة التعليم السابقة السيدة: نبقوه بنت حابه؛ لكن هذه الأساليب تظهر في أحد جوانبها ارتباكا يبحث أصحابه عن طرق مختلفة للقفز من سفينة آخذة في الغرق بسبب عدم قدرتها على مواجهة الأمواج المرتفعة للغة الأرقام الصادمة.
لست في موقف يمكنني من الحكم على مخرجات مدارس تكوين المعلمين ؛ لكن عملي في إدارة المصارد البشرية مكنني من اكتشاف الكثير من الحقائق المخيفة في أغلبها. سأسرد هنا نموذجا منها. ذات يوم وحين كنت استقبل ملفات خريجي مدارس تكوين المعلمين كانت ثمة استمارات تتضمن الاسم والعنوان والحالة الاجتماعية..أصبت بصدمة لم استطع معها التحكم في ردة فعلي حين طلبت من سيدة ملء الخانات الموجودة .فالمعلومات التي في شهادة كفاءتها التربوية تثبت أنها معلمة مزدوجة ؛ بمعنى أنها ينبغي أن تكون على دراية باللغتين معا؛ رغم أنها فضلت كتاية معلوماتها بالفرنسية؛ وحين وصلت للحالة الاجتماعية كتبت بكل ثقة Mariyé; avec Y والصحيح mariée ؛ قلت لها بعفوية هل درست بالفرنسية؟. قالت نعم !!..لم أجد بدا من الخروج من الأمر بطرق أخرى؛ فبادرت قائلا بلهجة وطنية ربما تحسنين اللهجة كذا... أكثر من لغة موليير أليس كذلك؟
استطعت نظريا أن أخرج بسهولة من إشكال في غاية التعقيد؛ لكن تبيعاته جعلتني أفكر جيدا في طرق إنقاذ تعليم يهدده تراكم خلل بإمكان القيمين عليه أن يضعوا له حلولا على المديين المتوسط والبعيد؛ قبل الانهيار الكامل لمنظومتنا التروبوية.
في لحظة فكرت في كل الاحتمالات التي من بينها إعادة تكوين المعلمين بناء على تحديد النواقص التي يعانون منها وتقسيمهم لمجموعات ..لكن خطوة كهذه تتطلب جرأة من وزير التهذيب الذي اعترف ضمنيا في تصريحه الأخير بعجز مستشاره الإعلامي وكل الفريق المكلف بالاتصال بالمجمهور؛ فمادامت وجهة نظر الوزارة مختطفة من قبل النقابات؛ فإن الأمر يتطلب صراحة من الوزير قد تكون لها ما بعدها في كل الأحوال.
مهما يكن من أمر فإن المصارحة تعد أولى خطوة في الاتجاه الصحيح؛ كما أن لغة الأرقام هي أهم وسيلة لقطع الطريق أمام المشككين؛ وفي كل الأحوال يحتاح الوزير لطاقم متكامل يتسم البجدية وبطول نفس يحسن أصحابه فن المراوغة؛ لأن المهمة ستزداد صعوبة مع كل خطوة تقربها من أهدافها المنشودة.
د. أمم ولد عبد الله