كاد هذا اليوم الطويل أن لا يمر بسلام في واشنطن.. عاصمة ذات وضع قانوني خاص يمتاز بالغرابة.. وتاريخ حافل بالإضطرابات.. بقي العالم يحبس أنفاسه إلى آخر لحظة.. مزيج من التوجس والخوف تحسبا لأي تطور طارئ قد يأتي فجأة، إلى جانب التوتر والتشويق والإثارة التي تشكل جزء من طقوس الدراما الأمريكية.. تماما كما يحدث عند مشاهدة أي فيلم أمريكي طويل..
في خلفية المشهد الإعلامي هذا اليوم، كانت القنوات الكبرى تتزاحم على النقل الحي لوقائع حفل استلام الرئيس الأمريكي الـ 46 لمقاليد الحكم، وسط حراسة أمنية وعسكرية مشددة وغير مسبوقة، وفي جو مشحون بالتوتر والإنتظار، بينما تظهر على الشاشات الصغيرة، صور لمختلف المعالم الكبرى للعاصمة الفيدرالية الأمريكية واشنطن دي.سي D.C.
تتمتع مدينة واشنطن، التي لطالما تورطت -عبر مراحل تاريخها- في المناورات السياسية والصراعات الطائفية، وقضايا العرق والهوية الوطنية والتسوية، وفي الصراع على السلطة بطبيعة الحال، بوضع إداري وقانوني خاص في غاية الغرابة.. ويقضي ذلك الوضع الخاص بحرمان سكان العاصمة منذ فترة طويلة، من الحق في انتخاب نواب أو أعضاء في مجلس الشيوخ الأمريكي يمثلونهم، مثل أي مدينة أخرى.
ثم أن هذه المدينة، التي تسمى رسميا "مقاطعة كولومبيا" District of Columbia، وغالبًا ما يشار إليها بواشنطن العاصمة لتجنب إلتباس اسمها مع إحدى الولايات المتحدة الأمريكية الأخرى، وهي واشنطن التي تقع على شاطئ المحيط الهندي على الجانب الآخر من الولايات المتحدة والتي أكبر مدنها هي اسياتل.
أما واشنطن العاصمة، أو واشنطن دي.سي. فهي مدينة صغيرة نسبيا، وهي ليست واحدة من الخمسين ولاية في الاتحاد الفيدرالي، بل إنها تابعة إداريا بصفة مباشرة للكونجرس. ويبلغ عدد سكانها أقل من مليون نسمة، وتغطي مساحة قدرها 177 كيلومتر مربع.
تأسست مدينة واشنطن دي.سي في 16 يوليو 1790 ، بموجب دستور الولايات المتحدة لتكون عاصمة أمة قيد التشكل. وقد حسم الأمر بعد خلاف مرير على تحديد موقع العاصمة الفيدرالية المناسب، بحل وسط. فقد أراد ألكسندر هاملتون والولايات الشمالية أن تتحمل الحكومة الفيدرالية الجديدة ديون حرب الإستقلال 1775 -1783، أما توماس جيفرسون، والولايات الجنوبية، فقد أرادت وضع العاصمة في موقع صديق للمصالح الزراعية العبودية.
ولكن الرئيس جورج واشنطن انتهى به الأمر إلى اختيار الموقع الحالي للمدينة على طول نهري بوتوماك وأناكوستيا وهي أراضي خصبة وجميلة تعود لشعوب الهنود الحمر.
وقد تأسست المدينة رسميًا في التاريخ المذكور، بعد تنازل كل من ولايتي ماريلاند وفيرجينيا المجاورتين، بطلب من الكونجرس، عن بعض أراضيهما من أجل إقامة هذه "المقاطعة" الجديدة ، لتكون متميزة عن باقي الولايات.
أما من حيث تصميم المدينة، فقد عهد بتخطيط واشنطن إلى مهندس فرنسي يدعى Pierre Charles L'Enfant, ، وقد قام بتخطيطها بحيث يكون مركز المدينة وقلبها النابض هو مبنى الكابيتول أي مقر الكونجرس الأمريكي.
لكن العاصمة واشنطن قد دُمّرت بالكامل تقريبًا خلال حرب 1812 ضد بريطانيا العظمى، التي غزتها وأحرقت الكثير من معالمها بما في ذلك البيت الأبيض المكتمل حديثًا، ومبنى الكابيتول ومكتبة الكونغرس.. وحتى بعد ذلك الدمار، ظلت المدينة صغيرة، خاصة من حيث السكان الدائمين. وسرعان ما أصبحت أصغر في الحجم في عام 1847، بعد أن تمت إستعادة جزء المدينة الذي كان في الأصل من أراضي ولاية فرجينيا المجاورة.
وقد شهدت واشنطن أثناء الحرب الأهلية1861 - 1865 ، بداية تحرير العبيد منذ أبريل 1862، أي قبل 9 أشهر من إعلان تحرير العبيد رسميا. وبالتالي، فقد أصبحت واشنطن منذ ذلك التاريخ مركزًا للعبيد المحررين حديثا.
وقد شهدت واشنطن ما بعد الحرب الأهلية توسعًا كبيرًا، واستوعبت في النهاية منطقة جورج تاون القريبة منها، وكذلك المناطق الريفية المحيطة بشكل تجاوز مخطط المهندس L’Enfant الأصلي.
و على الرغم من كونها عاصمة فيدرالية، إلا أنه من المفارقات أن سكان واشنطن يفتقرون إلى الحكم الذاتي بالكامل، ويقتصر التمثيل في الكونغرس على مندوب ليس له حق التصويت في مجلس النواب، وعضو مجلس الشيوخ في الظل. وفي عام 1964، سُمح لواشنطن لأول مرة بالتصويت في الإنتخابات الرئاسية. ولعل الأغرب هو أنه لم يُسمح لمدينة واشنطن دي.سي. بانتخاب رئيس بلدية خاص بها إلا منذ عام 1973. .
ولا تزال مدينة واشنطن دي.سي. رغم أنها شهدت في الأسابيع الماضية أحداثا وتطورات سياسية ومجتمعية تميزت بالعنف والفوضي تعيد إلى الذاكرة جزء من ماضي المدينة المضطرب، لكنها تبقى مدينة وديعة، ونظيفة ونابضة بالحياة ومتنوعة ثقافيًا، حتى اليوم، من خلال ثرائها بالثقافات الدولية، وبالتراث والثقافة الأمريكية الأفريقية، بعد أكثر من 200 عام على تأسيسها.