في إطار الفعاليات المخلدة للذكرى الستين للاستقلال الوطني، أصدرت الوكالة الموريتانية للأنباء عددا خاصا من جريدة الشعب. وكما هو متوقع في مناسبة كهذه، فإن محتوى ذلك العدد أطنب في ذكر محاسن النظام القائم وإن بشكل ظاهري. في الصفحة رقم 15 (في النسخة الفرنسية) يتضمن العدد مقالا يحمل عنوانا جزافيا هذا إن لم يكن مغرضا نظرا لجسامة الموضوع الذي يضطلع به حال كونه يتعلق بذاكرة الوطن لكنه لذات السبب يستحق منا قراءة متأنية. عنوان المقال هو التاريخ السياسي لموريتانيا ويقع في أربع صفحات وقد كتبه مدير الوكالة الموريتانية للأنباء وهو المدير الناشر للجريدة.
قد يتبادر إلى القارئ للوهلة الأولى أنه لحسن الحظ قد ظفر برواية رسمية للتاريخ السياسي للبلد، رواية تعززها هيبة الدولة وتستقي قوتها من رصانة التحليل السياسي غير المنحاز المعتمد على الموضوعية والمدعوم بأدلة ملموسه، في بلد لم يكتب تاريخه السياسي بما فيه الكفاية.
كما قد نتوقع في هذا المستوى الرفيع من الخطاب الرسمي، أن الوكالة الموريتانية للأنباء قد تجشمت عناء الاعتماد على خبير في هذا المجال بل ربما مجموعة متخصصين ما بين مؤرخ وخبير في السياسة وفاعل شارك في بعض الأحداث السياسية المشكلة لتاريخ البلد. وبنفس المنطق فإننا نتوقع أن يكون المقال غنيا من حيث المراجع والمصادر وأن تكون الوقائع والأحداث موثقة توثيقا دقيقا.
التاريخ السياسي لموريتانيا برواية مدير الوكالة الموريتانية للأنباء
فيما يشبه المدخل إلى الموضوع، يستهل الكاتب روايته بالقول إن التاريخ السياسي لموريتانيا يمكن حصره بين حدين زمنيين : الحد الأول هو 10 نوفمبر 1946 وهو تاريخ أول اقتراع شعبي في البلد، والحد الثاني هو 19 نوفمبر 2006 وهو تاريخ أول انتخابات تشريعية وبلدية حرة وشفافة. إذا كان الأمر كذلك فلماذا يخصص الكاتب جزء مهم من روايته للفترة الزمنية الواقعة بين 2006-2020 وخاصة ما بين 2019-2020؟ أم أنه يعتبر هذه الفترة كأنها قد صارت جزءا من التاريخ السياسي لموريتانيا؟
من جهة أخرى، إذا أردنا أن نصف انتخابات معينة بأنها كانت نزيهة وشفافة، أليس من المفروض أن نعتمد على رأي مؤسسة أو هيئة ذات مصداقية، وإلا نكون كمن يلقي بالكلام على عواهنه ويقدم رأيا ذاتيا غير جدير بالثقة.
أما المقال من حيث المضمون فيختلف كثيرا عن الهيكلة التي تم الإعلان عنها سلفا. ويقدم النص معلومات مثيرة للريبة ومنها:
أن أهم الأحداث السياسية التي أثرت في تاريخ موريتانيا وقعت قبل استقلال البلد، ولا أدل على ذلك من أن تلك الفترة قد استحوذت على شطر المقال. ويحق لنا أن نتساءل عن دواعي ذلك، هل هو نتيجة زخم الأحداث السياسية في تلك الفترة؟ أم بسبب الاهتمام الخاص الذي يوليه الكاتب لها والذي يتجلى في الرواية الانتقائية التي تترصد الأحداث عن عمد وسبق إصرار؟ أم أن السبب يكمن في سهولة الولوج إلى المعلومات التاريخية المتعلقة بتلك الفترة بالنظر إلى وفرة الوثائق ذات الصلة؟
أن الفترة الممتدة من 1960-1978 والتي حظيت بربع مضمون المقال وتجلى فيها ما يعتمل في نفس الكاتب من حنين لها وابتهاج بها قد اقتصرت على ثلاث أحداث هي صك العملة الوطنية وتأميم ميفرما بإنشاء سنيم وإصلاح قطاع التعليم بإدخال اللغة العربية،
أن الفترة الممتدة ما بين 1978 و1984 تم التخلص منها في فقرتين دون أي تفصيل وبكل استخفاف وكأنها مجرد جزئية تافهة يتحتم إلقاءها في سلة المهملات. إنها في نظر الكاتب تجسيد حي للتقهقر السياسي وانهيار أسس الدولة الذي يجد الكاتب تعبيره الأبلغ في الخطيئة المتمثلة في ترسيم أسماء جديدة للولايات مستنبطة من التقاليد المحلية وتواترت الأجيال المتعاقبة على استخدامها إلى يوم الناس هذا (ولايات الحوض الشرقي، لعصابه، آدرار وهلم جرا…) بدلا من التسمية القائمة على الترقيم (الولاية الأولى ..إلخ) والتي لا توجد في أي بلد آخر من بلدان العالم.
أن الفترة الممتدة ما بين 1984 إلى 2019 تم الإجهاز عليها في أقل من صفحة واحدة. هنا نتفاجأ من الكاتب الذي أضاف إلى رتابة الأسلوب إيجازا مخلا لعل مرده إلى استعجاله الوصول إلى بيت القصيد. وبيت القصيد يتمثل في الآفاق الواعدة بالرخاء الاقتصادي والتلاحم الاجتماعي الذي يبشر به انتخاب السيد محمد ولد الشيخ الغزواني رئيسا للبلاد. في كلامه عن هذه الفترة، كان الكاتب كحاطب ليل. لقد نثر الكاتب في هذه الفقرة ما في كنانته من بقية أحداث لا يربطها رابط منطقي: الانتخابات الرئاسية والتشريعية لعام 1992، إخفاق المعارضة في استغلال الوضعية السياسية، الانقلابات العسكرية (والمحاولات الانقلابية الفاشلة)، ثم بطبيعة الحال الدور المحوري الذي لعبه le FDUC , RFD . أما عشرية محمد ولد عبد العزيز فالظاهر أنها لم تعرف أي أحداث سياسية ذات بال إذا استثنينا انتخابه مرتين رئيسا للبلاد وقد تخلص الكاتب من تلك العشرية في ستة أسطر.
وفي النهاية يختم الكاتب مقاله بفتح آفاق جديدة مع انتخاب السيد محمد ولد الشيخ الغزواني، آفاق تتمثل في جهود الإصلاح السياسي الذي يضطلع به النظام القائم وفي الإرادة السياسية في ترسيخ مصالحة وطنية وكأن كل مقوماتها قد تحققت فيما يبدو.
بهذه الخلاصة فإن الكاتب، يقرر ضمنيا أن بناء الدولة الموريتانية قد توقف عام 1978 ليُستأنف من جديد بتاريخ يونيو 2019. إنها للأسف شقشقة سرمدية سمعناها من رواة وخطباء يمتهنون الأساليب الرنانة ويضربون صفحا عن الموضوعية والأمانة. لكن خطباء بلاط العشرية الأخيرة وهم نفسهم خطباء بلاط الفترات التي سبقتها كانوا في ترانيمهم المستميتة يحاولون ربط فترة حكم محمد ولد عبد العزيز بما قبل 1978. وهم في ذلك كما يقول المثل: “كل فتاة بأبيها معجبة” فكل يسعى إلى تمجيد بل تقديس النظام السياسي الذي يتفيأ ظلاله وينعم بإكرامياته. إنها جوقة كبرى اختلط فيها الحابل بالنابل، لا ناه فيها ولا منته.
لقد انتهج الكاتب أسلوبا درج عليه كثيرون قبله. لكن أي غرابة في هذا؟ هل ننقم من أحد أن جعل من مصالحه الشخصية بوصلة تحدد اتجاهه. لنقل إن الغاية تبرر الوسيلة وأن لا عبرة بالطريقة التي يتحقق بها المقصود ما دام قد تحقق.
الخرف المفتعل في راوية التاريخ السياسي الموريتاني
أورد الكاتب، مدير الوكالة ومدير نشر الجريدة سلسلة من المعطيات التي تفتقر إلى الدقة التاريخية أحيانا وتقترب من الخيال المجنح أحيانا أخرى. وهو في نهاية المطاف بأسلوبه الفج والبعيد من اللباقة بل هو أقرب ما يكون إلى سوء النية، لم يعْدُ أن تجاهل وقائع وأحداثا بعضها مأساوي وقعت قبل 1978 وكانت ذات تأثير في التاريخ السياسي للبلد نذكر من تلك الوقائع ما يلي:
الخطأ القاتل المتمثل في الدخول في حرب ظالمة بضغط من المغرب ودون أهداف سياسية واضحة. حرب لم يكن بلدنا مهيأ لها اقتصاديا ولا عسكريا.
الحصيلة الثقيلة لحرب الصحراء التي حصدت أرواح 4000 مواطن موريتاني ما بين عسكري ومدني. إن تجاهل هذه الحرب وعدم ذكرها يعتبر إهانة موجهة لأرواح الشهداء وأسرهم التي عانت كثيرا وتم نهب ممتلكاتها بسبب هذه الحرب المدمرة والعبثية وعديمة الجدوى.
انسداد الأفق بغياب أي أمل في الديموقراطية والتداول السياسي في ظل احتكار الحياة السياسية من طرف حزب الشعب الموريتاني. وبدلا من أن يسلط الكاتب الأضواء على أسباب ونتائج دكتاتورية حزب الشعب فإنه اعتاض عن ذلك بكلام يشبه الخطب المدبجة التي درج عليها خطباء الحزب الجمهوري.
القمع الدموي الذي جوبهت به مطامح الحرية والمطالب الاقتصادية أو الاجتماعية أو المعارضة السياسية (أحداث العام 1966 المأساوية، سقوط قتلى في إضراب ازويرات 1968، سجن وتعذيب النقابيين والكادحين…)،
ابتداع عادات دخيلة على المجتمع الموريتاني ومنها الرشوة والغلول. تم في هذا الصدد تنفيذ صفقتين مشبوهتين كانت لهما آثار مدمرة على نفسية الجنود وعلى فاعلية الخطة العسكرية. فقد وقع الاختيار على سيارات سانتانا التي كان مفعولها في العمليات العسكرية مثبطا والتي هي محاكاة رديئة لسيارات لاندروفير بينما استخدم البوليساريو سيارات تويوتا ولاندروفير. كذلك تم اختيار سلاح موزير وهو مدفع غير أوتوماتيكي صنع خلال الحرب العالمية الأولى وفي المقابل كان العدو يمتلك سلاحا هجوميا أويتوماتيكيا هو كالاشنيكوف،
تأخر دفع الرواتب عن الوقت المعتاد في حين لم تعد البقرة الحلوب، شركة سنيم، قادرة على تحمل تكاليف المجهود الحربي في ظل وضعية اقتصادية متدهورة طبعها ارتفاع المديونية الخارجية بنسبة بلغت 140% من الناتج المحلي الخام (المصدر، بادويل 1994)،
عدم اكتراث السلطات العمومية بوضع المؤسسة العسكرية من حيث الجاهزية والعتاد والتدريب قبل عام 1975 وهو ما أدى إلى ذبول هذه المؤسسة الحيوية،
لقد بلغ عدد جنود الجيش المغربي المتمركزين في موريتانيا حوالي 9000 جندي موزعين بين أطار وأكجوجت وبير أم اقرين، لكن تلك المفارز لم تستطع الاندماج في الخطة العسكرية الموريتانية، ولم تلتحم بالعدو إلا فواقا وعلى استحياء. والأدهى والأمر أن شكوكا كثيرة كانت تحوم حول النوايا الحقيقية للمملكة المغربية.
البغض الدفين ضد منفذي انقلاب 1978
عند كلامه عن دوافع انقلاب 10 يوليو 1978 يقع الكاتب في زوبعة من المشاعر المتناقضة التي تراوح بين النظرة الاستعلائية والأوهام الخيالية وحمى الحنين الجامح إلى ما قبل 1978. تحت تأثير هذا الخليط المتفجر يقدم لنا الكاتب طبقا من المعلومات الغريبة يمكن أن نرصد منها ما يلي:
أن الأحزاب القومية كانت هي العقل المدبر لانقلاب 1978. وللتذكير نقول إن غالبية تلك الأحزاب التي كانت تنتهج العمل السري، تم تكميمها أولا من طرف النظام القائم قبل أن يعمد إلى قمعها ثم إذابتها في جوف حزب الشعب ابتداء من عام 1975.
أن مدبري الانقلاب هم أناس لا قرار لهم ويفتقرون إلى الرؤية السياسية وأن دوافعهم هي في الأساس انقلابية لا تخدم إلا نواياهم الشخصية.
لكن هل يمكن أن نتصور أن كاتب المقال يجهل أن رواد هذا التغيير هم رجال أمناء، أبطال ووطنيون وأن أغلبهم كانوا قد شاركوا في بناء صرح الوطن؟؟ أن يحمل أحد مشاعر الكراهية لهؤلاء يعتبر في الواقع إهانة لهذا المجتمع بأسره. هل نسي الكاتب أن هؤلاء الرجال كانوا من المعاونين المقربين من الرئيس المختار ولد داداه رحمه الله تعالى.
لنأخذ أمثلة على ذلك في العلاقة التي كانت قائمة بين الرئيس المصطفى ولد محمد السالك رحمه الله تعالي والرئيس المختار ولد داداه، لقد كانت علاقة مبنية على الثقة والتقارب وهي حقيقة يبدو أن الكاتب يجهلها أو يتجاهلها. لقد كان المختار يرى في المصطفى سمات الرجل الأمين، الكفء، المنضبط، ذا الراي السديد. وكان يستدعيه للمهام الصعبة. ولا أدل على ذلك من أنه عينه ثلاث مرات قائدا للأركان، وأنه (المختار) خلال أحداث 1966 أوكل (إلى المصطفى) مهمة التصدي لتلك الأحداث وأصدر لذلك مرسوما رئاسيا يقوم مقام تفويض بتسيير شؤون الدولة (المصدر Evrard, 2015)، هذا فضلا عن أنه أسند له مهمة إنشاء وتنظيم الجيش الوطني رغم أنهما اختلفا بسبب رغبة المختار في إدماج الجيش في حزب الشعب.
أما التلميح بأن رواد تغيير 1978 كانوا مجرد انقلابيين، فإن الكاتب تعمد فيه السخرية بدل الحجة الدامغة. لكن لرفع اللبس حول هذه النقطة فإنني أذكر الكاتب ببعض الحقائق المهمة التي ستعينه مستقبلا في تطعيم طبخاته ببعض توابل الحقيقة:
لقد كان الرئيس المصطفى مناضلا في حزب النهضة خلاله فترة عمله معلما وبسبب نشاطه السياسي فقد اتخذت وزارة التهذيب إجراءات عقابية في حقه. فهل يمكن أن نصف سياسيا مخضرما اشتغل بالعمل السياسي قبل نشأة الدولة، أنه مجرد انقلابي أو انتهازي؟
لقد كان الرئيس المصطفى صديقا للسيد محمد ولد الشيخ ولد أحمد محمود رحمه الله تعالى وقد كانا يتقاسمان بعض القناعات وبالذات فيما يتعلق بالوحدة الوطنية وفي ضرورة إرساء التعددية الحزبية سبيلا إلى التناوب الديموقراطي (ينظر في المقابلة التي نشرها عام 2006 Fessart de Foucault). وذلك ما جعلهما يتهمان بالتخطيط لقلب نظام الحكم عامي 1964-1965. ونفس الاتهامات تم توجيهها إلى أحمد ولد محمد صالح أطال الله بقاءه. لكن تبين فيما بعد أن ذلك لم يكن إلا إشاعات مغرضة تم تلفيقها من طرف بعض المتملقين. إلا أن المختار نظرا لاقتناعه بوفاء هؤلاء الرجال لم يلق بالا لتلك الشائعات. فهل يمكن أن نصف رجل دولة يؤمن بالوحدة الوطنية وبالتعددية الحزبية، أنه مجرد انقلابي أو انتهازي؟
لقد دأب المصطفى على التعبير عن رأيه علنا بخصوص المختار من جهة وبخصوص الوزراء الذين عمل تحت إمرتهم في الداخلية وفي الدفاع، فكان يعبر عن رأيه في السياسات المطبقة. ولو أن الكاتب تجشم عناء البحث في وثائق الرئاسة أو وزارة الداخلية أو الدفاع لعَنّ له مدى تشبث هذا الرجل بمصالح بلده واهتمامه بنجاح سياساته. ولا أدل على ذلك من أن إحدى الرسائل التوجيهية التي كان يبعثها إلى حكام البلد هي التي أدت إلى سجنه. حدث ذلك في فترة كان فيها المصطفى ينعم بحياة هادئة بعد أن نال حقه في التقاعد. لكنه لفرط اهتمامه بمصالح البلد، كتب رسالة إلى محمد خونا ولد هيداله أطال الله بقاءه ذكّره فيها بأنه ابتعد عن أهداف حركة العاشر من يوليو وأن عليه أن يراجع توجهاته السياسية بهذا الخصوص. لكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، فقد انبرى أبواق النظام القائم في تنفيذ مهامهم القذرة بالوقيعة بين الأصفياء وأصحاب النوايا الحسنة. وكانت نتيجة ذلك أن تم سجن المصطفى ولبث في السجن بضع سنين. ولن أتطرق هنا إلى ما تعرض له من تعذيب نفسي وبدني. ثم تبدلت الأحوال وإذا بولد هيداله يزور المصطفى في داره ملتمسا منه الصفح والمسامحة. ورد عليه المصطفى بأن لا تثريب عليكم اليوم، يغفر الله لكم. فهل يمكن أن نصف رجلا وطنيا صادقا تعرض لشتى أنواع التنكيل بسبب تغليبه للمصالح العليا لبلده، أنه مجرد انقلابي أو انتهازي؟
هذا ولدحض إيحاءات الكاتب بحدوث مؤامرة وخيانة، فإننا نذكره بأن المصطفى كان قد اجتمع بالمختار في مكتبه بالرئاسة أياما قليلة قبل الانقلاب محاولا إقناعه بالعدول عن الخطة التي ينتهجها. وعرض عليه مقترحين: تعزيز وسائل الجيش لتفادي الكارثة السياسية المحدقة ولمنع إزهاق المزيد من الأرواح أو إيقاف الحرب. لكن رد المختار كان قاطعا ورافضا لكلا الاقتراحين (يراجع المقابلة التي أجراها اليدالي ولد الشيخ رحمه الله وكان وقتها أمينا عاما مساعدا للرئاسة مكلفا بالشؤون القانونية والاجتماعية والثقافية).
وأخيرا بخصوص الاتهام بالافتقار إلى الرؤية فإننا نذكر الكاتب أن حركة العاشر من يوليو كانت قد رسمت ثلاثة أهداف هي: إيقاف الحرب، إنعاش الاقتصاد، والتحول الديموقراطي المفضي إلى تسليم السلطة للمدنيين. لقد تم بالفعل تحقيق الهدف الأول، وتم الشروع في تحقيق الهدفين الآخرين ويتجلى ذلك في إجراءات متعددة منها إنعاش الوضعية الاقتصادية لشركة سنيم وإنشاء المجلس الاستشاري. لكن الإجماع لم يكن سيد الموقف داخل اللجنة العسكرية، لأن بعض أعضاءها وبدعم من المغرب كانوا قد تخلوا عن هذه الأهداف خاصة منها ما يتعلق بالانتقال إلى النظام الديموقراطي. لقد وجد الرئيس المصطفى نفسه، مع قلة من أعضاء اللجنة، سابحا عكس التيار فآثر التخلي عن السلطة وبخروجه من المشهد السياسي أخذت الحياة السياسية في البلد مجرى جديدا …
وكان العمل الرئيسي لهؤلاء الانقلابيين هو تفكيك البلد بالكامل وتقويض دعائمه
للرد على هذا الفرية العظيمة فإنني أقول لمدير الوكالة الموريتانية للأنباء إن حركة العاشر من يوليو 1978 هي أمر وقع بالفعل ولا مندوحة عن الاعتراف بأنه كان لزاما أن يقع نتيجة تعنت النظام القائم وإصراره على اعتبار الحرب هي السبيل الأوحد. ومهما يكن من أمر فإن العاشر من يوليو سيبقى في ذاكرة الغالبية العظمى من الموريتانيين على أنه عمل وطني أنقذ البلاد. ولعل من المهم أن نذكر أن الحرب لو تواصلت لربما تجاوز الخطر تقويض دعائم الدولة إلى وجود الدولة أصلا. لقد كان جليا وقتذاك أن الدولة قد انهارت وأن جميع مؤسساتها قد باتت في مهب الريح. كذلك لم يعد خافيا على أحد أن أطماع الدول المجاورة قد صارت أمرا ماثلا للعيان. هذه حقائق لا يمكن لمدير الوكالة الموريتانية للأنباء أن ينكرها.
سيدي مدير الوكالة، يقول المثل العربي: نصف العلم أخطر من الجهل. وأخشى ما أخشاه أن تكون مشاعر الحنين إلى ما قبل 1978 قد حجبت عنك نصف العلم أو نصف الحقيقة فكنت تكتب تحت تأثر نزعة الانحياز لهوى نفسك.
استغلال منبر رسمي بهدف التلاعب بالذاكرة الوطنية
لقد كان من الممكن أن تمر خرجة مدير الوكالة هذه دون أن يفطن لها أحد تماما كما هو حال سابقاتها، لولا المنبر الذي أتيح للمدير أو لعله استحوذ عليه غصبا معتمدا على أن أصحاب القرار في البلد لا يهتمون بإصدارات الوكالة الموريتانية للأنباء.
وأخشى أن يكون وراء إصدار هذا العدد دوافع نفعية بحتة في شكل بلاغات دعائية، هذا من جهة ومن جهة أخرى استغلال العدد لبعث النزعة الجهوية التي صارت فيما يبدو قناعة راسخة يحملها الكاتب منذ سنين مضت.
لكن ما لا يمكن السكوت عنه هو أن يحاول مدير الوكالة إعادة كتابة التاريخ اعتمادا على معلومات مغلوطة وافتراءات مفضوحة نابعة من قناعات ذاتية ديدنها الجهوية المقيتة التي لم تعد تحرج صاحبها.
نظرا لكل ما سبق وتفاديا لأن يصار إلى حفظ مقال مدير الوكالة ومن ثم استغلاله من طرف الأجيال القادمة وكأنه وثيقة أساسية لتاريخ بلادنا، وإسهاما في إنارة الرأي العام والمهتمين بتاريخ البلد ومساره السياسي، أرى أنه من الواجب فضح الخلفية السيئة التي يقوم على أساسها هذا المقال.
لا يمكن بحال من الأحوال أن نقبل محاولة الكاتب الإحاطة بتاريخ موريتانيا السياسي في أربع صفحات فقط دون الإحالة إلى أي مصدر أو مرجع أو مقابلة مكتوبة أو شفوية. والأمر أكثر شناعة إذا تعقل بأستاذ للتاريخ (ولو كان مجرد أستاذ مساعد) لم يكلف نفسه مراعاة البناء التاريخي والتحليل المنطقي. أستاذ لا يراعي في سرد الأحداث أي موضوعية أو تجرد من حظوظ النفس مع غياب تام لمحاولة فهم الوقائع. كل ذلك يجرني إلى طرح التساؤلات التالية:
هل من المقبول في حق وسيلة إعلام رسمية تمثل الجناح الإعلامي للدولة وتستقي تمويلها من أموال المواطنين أن تقدم لهؤلاء المواطنين معلومات مكذوبة تهدف إلى التلاعب بالوعي الجمعي وتزوير التاريخ،
هل يستساغ أن مديرا لوسيلة إعلام عمومية يستخف بعقول الناس ويمرغ أخلاقيات المهنة في التراب مبرزا ميوله الجهوية والسياسية على حساب جودة ووجاهة المعلومات،
هل يتصور أن مؤسسة تابعة للدولة تسمح لنفسها بتلطيخ سمعة الرؤساء السابقين دون وازع ودون أن يرتفع لذلك صوت مندد في هرم السلطة،
صمت السلطة الوصية على الوكالة الموريتانية للأنباء قد يبدو نوعا من الضلوع في المسؤولية أو التهاون بها. ومن واجب الدولة الرد على هذه التساؤلات.
في انتظار ذلك، فإننا نورد ملاحظة تستحق الرد: إن الخرجة الإعلامية لمدير الوكالة تتناقض تماما مع خطاب التنصيب الذي ألقاه رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني والذي أكد فيه على الدور المحوري والبناء لكل الرؤساء السابقين الذين تولوا دفة الحكم منذ الاستقلال إلى الآن.
السيد محمد فال ولد بي لقد كان من حسن حظكم أنكم تربيتم في محيط “الحله” حيث تقاليد الشرف الرفيعة للإمارة بعيدا عن السخرية والخيانة والنميمة. وفوق ذلك كله فإن ديننا الحنيف ينهانا عن الغيبة والشماتة بالأحياء فكيف بالأموات، قال تعالى: “وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً” وقد عرّف رسول الله صلى الله عليه وسلم الغيبة بقوله: أتدرون ما الغيبة؟ قالوا الله ورسوله أعلم، قال: ذكرك أخاك بما يكره، قيل أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته.
فعليكم على الأقل ألا تنسوا أن انتمائنا لهذا المجتمع دينا وأخلاقا وتقاليد يضع على عواتقنا عبئا ثقيلا يجدر بكل نفس نبيلة تحمله.