الأستاذ محمد يحظيه ولد ابريد الليل شخصية مرموقة، غني عن التعريف؛ صاحب قلم سيال ومواقف مثيرة للجدل والحيرة، له مع كل نظام انقلابي زواج حب وطلاق قلى!
يعده البعض مفكرا ومنظرا سياسيا، واشتهر بتزعمه لتيار حزب البعث العراقي في موريتانيا، ولكنه كثيرا ما يبتعد عن البعثيين، ابتعادا عموديا من قبيل الارتفاع، أو الترفع، على الأقل عن مستوى القاعدة العريضة للتيار البعثي الموريتاني وأنصاره.
ولولد ابريد الليل ككاتب سياسي واسع الثقافة، ميزة نادرة بين الفرانكفونيين الموريتانيين هي التمسك بالقلم الفرنسي البارع والاتجاه العروبي الناصع.
قرأت من آخر ما كتب ولد ابريد الليل الحلقات الخمس عن ذكرياته مع المرحوم المصطفى ولد بدر الدين. وقد ركز فيها على علاقات وتجارب تصل حد التطابق والتماهي بين الرجلين، رغم الاختلاف المعروف بين اتجاهيهما الفكري والسياسي، وبصورة أخص بين شخصيتيهما؛ لأن المرحوم بدر الدين معروف بالوضوح والصراحة وثبات المواقف...
وبالطبع تحدث ولد ابريد الليل في مقالاته عن المصطفى براحة مَن يتحدث عن شخص لن يلقاه أحد قبل يوم القيامة! ولكنه كان حديثا طيبا، فيه ما يليق من الثناء والاحترام لشخص الراحل ومواقفه السياسية.
ولكن الكاتب ـ وهذا هو ما يهمنا من حديثه ـ أدرج تأبين صديقه الكبير في مواضيع سياسية وتاريخية أشمل وأعمق، تناولت الأوضاع في موريتانيا منذ الاستقلال إلى يومنا هذا، تناولا مباشرا يتقاسم فيه الكاتب وتياره القومي مع الراحل وتياره اليساري، دور البطولة والنصر، بانسجام قد يفاجئ بعض شهود عصرهما!
أعجبني جدا حديث ولد ابريد الليل عن التعليم وتشخيصه لما يعانيه من فساد وانحطاط، وكذلك حديثه عن الرق وقرار إلغائه إبان حكم ولد هيداله، وثناؤه الحار على أعمال التطوع الواسعة والمفيدة في أيامه كذلك.
وبالطبع فإن للكاتب وحزبه والتيار اليساري، "الجامع" له مع بدر الدين، أفضالا وأدوارا يزكيها هو في كل تلك الأعمال والقرارات الإيجابية!
غير أن الجانب المعتم والمنطق المائل للكاتب، تركز على المبالغة في نقد المرحوم المختار ولد داداه، وسلق نظامه ووصفه ـ تصريحا وتلميحا ـ بكل ما يتصوره المرء من البوائق والصواعق!
وفي هذا المجال ركز الكاتب على حرب الصحراء، وتحدث عنها بمنطق وموقف تحسده عليه جبهة بوليساريو أيام 1978، ويقصر عنه إعلامها يومئذ!
ويبدو أنه لم يدُر في خلده أبدا، وهو من رجال الدولة، أن الضباط والجنود الموريتانيين الذين سقطوا في تلك الحرب، دفاعا عن دولة ليسوا ـ في ذلك الوقت ـ مسؤولين عن حكمها وسياساتها... كانوا مواطنين موريتانيين من كل فئات وطبقات الشعب.
لقد تحدث عن تلك الحرب بقسوة، وعن أبطالها ومعاركها باستهزاء وتشف غريبين، ولم تذرف عينه دمعة واحدة على ضحاياها الموريتانيين من العسكريين والمدنيين! بل قلل من أهمية الجيش الموريتاني يومها، وصور كل أدواره في تلك الحرب، التي أدى فيها واجبه كما ينبغي، بالهزائم والانهيار... وأقام في ذلك قيامة عظيمة تظهر أن الدولة الموريتانية قد انتهت واختفت من الوجود، بينما الواقع أنها ظلت ـ على علاتها الكثيرة ـ صامدة؛ ما استطاع الغزاة احتلال شبر من أرضها ولا حتى من الأرض التي يعتبرون أنها تحتلها عدوانا.
ولكن احتقاره للجيش الموريتاني، ما عتم أن أصبح إعجابا وتعظيما ووطنية... حين أطاح بالنظام المدني في أول انقلاب عسكري 1978، الذي تولى الكاتب في حكومته حقيبة وزارية مناسبة (وزارة الإعلام)!!
تحدث الوزير السابق بإعجاب عن ذلك الانقلاب الذي قام على سواعد، أو مدافع، الصف الثاني من ضباط الجيش الموريتاني الذين نالوا وظائفهم ورتبهم وبواكير ثرائهم... من تلك الحرب حصريا؛ ولولاها لما كان لهم دور كبير على الأرجح!
وطبعا لم يلاحظ أن معظم كبار قدماء الجيش الموريتاني ومؤسسيه قد رفضوا المشاركة في ذلك الانقلاب، الذي اعتبره اليسار خاصة، فتحا مبينا وثمرة لكفاحه (ويتبين حتى اليوم أنه كان بئس الحصاد!).
نذكر من أولئك الضباط الكبار، فياه، وكادير، وبوسيف... وقد اضطر الانقلابيون لإسناد وظائف سامية لهم في حكوماتهم الأولى، قبل أن يشتد الصراع بينهم على السلطة، وتقبر محاولة ولد بوسيف إعادة الأمور إلى نصابها، ثم تنبعث من ذكراه محاولة 16 مارس 1981 التي أدت لإعدام عدد من أبطال الجيش الموريتاني المشهود لهم بالشجاعة والكفاءة والوطنية.
أخيرا على هامش الهامش: ختم الأستاذ الكبير ولد ابريد الليل مقاله المسلسل بهذه الخاتمة:
"ليس بالإمكان قول شيء ذي معنى، في هذه المناسبة، سوى مضمون ما قاله شاعر عربي قديم: إن وفاة هذا الرجل، ليست موتَ شخص، وإنما هي عبارةٌ عن هلاك قوْم."
فتساءلت أنا: لما ذا لم يورد بيت الشاعر عبدة بن الطبيب يرثي قيس بن عاصم المنقري، في المرحوم بدر الدين (حتى لو كان كتب أصلا بالأعجمية)؛ فهذا مقام ذلك البيت المشهور، بنصه الجميل غير المشوه بنعوت موليير الغريبة المسغربة:
* فما كان قيسٌ هَلْكُه هَلْكُ واحدٍ * ولكنَّهُ بُنيَانُ قَومٍ تَهدَّما*
؟؟!!
م. محفوظ ولد أحمد