
في مثل هذا اليوم من مايو 1979، حلقت طائرة عسكرية موريتانية فوق المحيط، وعلى متنها واحد من أقوى رجال السلطة في البلاد. كان المقدم أحمد ولد بوسيف، النائب الأول لرئيس اللجنة العسكرية للخلاص الوطني ورئيس الوزراء، في طريقه لتمثيل موريتانيا في قمة إقليمية. بعد دقائق من محاولتها الهبوط في مطار دكار، كانت الطائرة قد اختفت، وكان الرجل ومعه وفد رفيع المستوى قد أصبحوا في عداد الشهداء.
أعلنت البلاد الحداد العام، لكن السلطة كانت أسرع من الحزن؛ إذ لم تمض أيام قليلة حتى تغير كل شيء: وجوه القيادة، ووجهة البلاد، ومحاور التحالف الإقليمي. في الخلفية، كانت خيوط غير مرئية تتحرك، تتقاطع فيها حسابات الداخل بظلال ليبيا، والبوليساريو، والمغرب، والجزائر. فهل كان تحطم طائرة "بيفالو" مجرد حادث مأساوي في أجواء غير صافية؟ أم أن ما جرى كان تصعيدا صامتا لمعركة خفية على القرار، كان الراحل بوسيف أحد أبرز ضحاياها؟
يعيد هذا التحقيق، الذي ينطلق من شهادة العقيد كادير - أحد أقرب معاوني بوسيف وأول من تابع خيوط الحادث - فتح الملف المهمل لأحد أكثر الحوادث غموضا في التاريخ السياسي الموريتاني الحديث، ويطرح أسئلة ما تزال عالقة بعد أكثر من أربعة عقود: هل تمت تصفية رئيس الوزراء في مهمة اغتيال جرى تنفيذها بدقة؟ من كان يملك المصلحة والأدوات؟ وهل كان القذافي يومها حاضرا، بصمت قاتل، في سماء دكار؟
الحيثيات
صبيحة يوم السابع والعشرين مايو 1979 كانت طائرة "بيفالو" التابعة للجيش الموريتاني على وشك الهبوط في مطار دكار، قبل أن ترتفع محلقة باتجاه المحيط في رحلة لن تعود منها. كانت تلك الطائرة تقل وفدا رفيع المستوى يفترض أن يمثل موريتانيا في القمة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا وكان يرأس ذلك الوفد النائب الأول لرئيس اللجنة العسكرية، رئيس الوزراء، المقدم أحمد ولد بوسيف، ويضم قائد القوات الجوية النقيب انجاي اندياك، ومدير ديوان رئيس الوزراء الدكتور والي انضو، والسفير با إبراهيما بالإضافة إلى المرافق العسكري وموظفين في وزارة الخارجية وسينمائي وصحفي وميكانيكيين.
أكدت الأنباء الأولية القادمة من العاصمة السنغالية أن الطائرة هوت في المحيط، كانت الرؤية محدودة بفعل الرياح القوية المحملة بالأتربة، ووسائل الإنقاذ جد محدودة لدى كل من السنغال وموريتانيا، فكان على الجميع أن يتقبل بسرعة –رغم هول الكارثة- أن رجل موريتانيا القوي والوفد المرافق له قد قضى عليهم في حادث تحطم الطائرة.
بدا الأمر أشبه ما يكون بحادث عادي، فقد اجتمعت اللجنة العسكرية للخلاص الوطني في اليوم الموالي لتعلن حدادا وطنيا لمدة 40 يوما ولتسند –حسب مقتضيات ميثاق اللجنة العسكرية- للنائب الثاني لرئيس اللجنة المقدم أحمد سالم ولد سيدي "مهمة تسيير الشؤون الجارية والمستعجلة لرئيس الحكومة".
وأمعنت يومية الشعب –لسان حال السلطة- في الإشادة بفقيد الأمة وابنها البار الذي كان "قائدا شجاعا ورجلا صلبا تحدى كل المخاطر ونال إعجاب واحترام الأصدقاء والأعداء".
غير أنه مع حلول يوم الـ 31 مايو 1979 تبين أن "تحطم طائرة بوسيف" كان إعلانا لنهاية مرحلة وبداية أخرى، فقد عقدت اللجنة العسكرية اجتماعا طارئا حمل إلى السلطة فريقا جديدا بتوجهات جديدة -بقيادة المقدم محمد خونه ولد هيداله- كان فيما بدا متلهفا للاستحواذ على السلطة و"اجتثاث" كل المقربين من رئيس الوزراء الذي لم يمض على إعلان الحداد عليه أكثر من 3 أيام!
لم يتوقف الأمر على الوضع الداخلي للبلاد، بل شمل التغيير أيضا المواقف الخارجية حيث أعيد فتح المفاوضات المتعثرة مع البوليساريو، وفي الخامس أغشت تم توقيع صلح منفرد معهم بعد وقت قصير من الهجوم المهين على "تشله".
وفي 14 يونيو استعادت موريتانيا علاقاتها مع الجزائر وتدهورت علاقاتها مع كل من المغرب وفرنسا.
هل يمكن أن يكون الأمر كله صدفة سعيدة سقطت على رؤوس فريق هيداله وحلفائه في شبه المنطقة؟ أم أن هناك بالفعل من كان يمتلك مصلحة في إبعاد بوسيف وفريقه من السلطة وقام بالتخطيط لعملية تحطم الطائرة؟
كادير: لا شك فى وجود مؤامرة
ما الذي يفسر أن يذهب رئيس حكومة –بل رئيس دولة في الواقع- في زيارة للمشاركة في قمة إقليمية من دون أن يرافقه أي عضو من أعضاء حكومته؟ وما الذي يفسر اعتذار وزير خارجيته الموجود في نواكشوط عن السفر معه؟ وما الذي يمنع سلطات نواكشوط من الأمر بإجراء تحقيق جدي في كارثة بهذا الحجم؟ وما الذي منعها أصلا من المشاركة في عمليات البحث عن الطائرة المفقودة؟ ولماذا بدل الاهتمام بمعرفة حقيقة ما جرى، لم تجد ما تفعله سوى التدافع لخلافة رئيسها الذي فقد حياته في ظروف مأساوية؟
إذا لم تكن هناك مؤامرة، ما الذي يفسر تقبل سلطات نواكشوط بسهولة لفرضية "الغرق في المحيط" لطائرة خرجت من مصنعها قبل أقل من سنة ولم تحلق أكثر من 500 ساعة ويقودها طيار محترف (قائد القوات الجوية) خبر الأجواء الموريتانية المعروفة بسوء أحوالها الجوية؟ ألا يثير الأمر ولو شكوكا بسيطة –خصوصا وأن الكارثة أودت بحياة 15 مواطنا من ضمنهم رئيس الوزراء- كان عليها أن تدفع السلطات إلى إجراء أي تحقيق من أي نوع كان؟
بالنسبة للعقيد كادير ليس هناك أدنى شك في وجود مؤامرة، وفي أن من نفذوها وقفوا عن وعي في وجه القيام بأي تحقيق لتحديد المسؤوليات. وفي مسودة مذكراته التي "لم تكتمل"، سجل جملة ملاحظات يعتقد أنها كافية لإثبات أن ولد بوسيف والوفد المرافق له قد تمت تصفيتهم:
• في الرابع والعشرين مايو 1979، أدلى الأمين العام لجبهة البوليساريو بتصريح جاء فيه: "نأمل أن تقدر سلطات نواكشوط النتائج الكارثية لتغيبهم عن طرابلس يوم 26 مايو من أجل مناقشة اتفاق الانسحاب من تيرس الغربية الموقع من طرف وزير الخارجية الموريتاني"
• في نفس اليوم اكتشفت أجهزة الأمن الوطني على شاطئ المحيط قرب نواكشوط، رادار مراقبة يديره أربعة ليبيين، وكانت التحقيقات بشأنهم متواصلة؛
• اتصل بي (يقول كادير فى مذكراته) هاتفيا وزير الداخلية الرائد تيام الحاج الليلة قبل سفر بوسيف أي السبت 26 مايو الساعة 12 و30 دقيقة، وطلب مني أن أقول لرئيس الوزراء أن يلغي سفره؛
• لم يكن وزير الخارجية (أخو قائد الأركان) ضمن الوفد المرافق، رغم أنه رافق ولد بوسيف إلى المغرب وفرنسا واسبانيا وكيغالي؛
• عند الإعلان عن الكارثة الجوية التي حلت برئيس الوزراء ومرافقيه، لم تقم وزارة الدفاع ولا قيادة الأركان باتخاذ أية إجراءات لتحريك آليات جوية أو برية أو بحرية للمشاركة في البحث عن الطائرة المفقودة، رغم أنها طائرة عسكرية (طائرة بيفالو دخلت الخدمة قبل أقل من سنة وقامت بأقل من 500 ساعة طيران) وأن طاقمها عسكري (ملاحها هو النقيب انجاي قائد القوات الجوية)؛
• تم إيفادي (يقول كادير) إلى دكار لجمع المعلومات المتعلقة بالكارثة، وخلال غيابي عن نواكشوط باشرت المجموعة إنهاء عملها التصفوي؛
• بعد عودتي من دكار كان الأمر قد حسم، ولم يلفت التقرير الذي حملته عن مهمتي اهتمام اللجنة التي كان عليها -على الأقل لأسباب إنسانية- أن توليه بعض الاهتمام؛
• تم الشروع بسرعة كبيرة في إجراءات خلافة المرحوم أحمد ولد بوسيف من دون احترام لا لذكرى الفقيد ولا للبعثات الأجنبية التي جاءت لتقديم التعازي؛
• على مستوى التوجه السياسي، صرح رئيس الوزراء الجديد بحضوري (يقول كادير) أنه يعتبر البوليساريو حليفا موضوعيا لموريتانيا؛
• بعد حصول الكارثة ووصول المجموعة الحالية للسلطة، لم تتحدث البوليساريو عن اتفاق طرابلس ولا عن تهديد موريتانيا.
نقاط استفهام
لا تكمن أهمية وجهة نظر كادير في أنه طيار محترف أشرف على التحقيق الأولي الذي جرى في السنغال، بل أيضا في كونه عاش في قلب الأحداث وكان مستهدفا باعتباره الساعد الأيمن لبوسيف. والشيء الأكثر بروزا في وثيقته هو قراءته للمشهد الوطني من خلال ارتباطه الوثيق بالضغوط شبه الإقليمية المتعلقة بالنزاع حول الصحراء الغربية، لذلك تحتل ملاحظاته حول تهديدات الأمين العام للبوليساريو واعتقال العملاء الليبيين، مركز الصدارة فيما اعتبره أسبابا وجيهة للاعتقاد بأن رئيس الوزراء تمت تصفيته.
وستكشف الأحداث اللاحقة أن تهديد البوليساريو بـ "نتائج كارثية" ينصرف إلى التراجع عن وقف إطلاق النار الذي كانت قد أعلنته من جانب واحد بعيد انقلاب 10 يوليو 78، وهو ما نفذته يوم 12 يوليو 1979 عبر هجومها المباغت على "تشله" لتقتل الكثيرين وتعتقل 71 أسيرا من بينهم حاكم المقاطعة ولن تفرج عنهم إلا يوم 29 يوليو بعد تدخل منظمة الوحدة الإفريقية وقبل أيام من توقيع اتفاقية الجزائر. كما أن الجزائريين أنفسهم لم يقطعوا الصلة بولد بوسيف إذ كانوا قد أوفدوا إليه ضابطين ساميين اجتمع بهما بعيد قدومهما إلى نواكشوط ليلة 22 مايو في زيارة تمت إحاطتها بالكثير من السرية.
أما طبيعة مهمة عملاء الاستخبارات الليبية في موريتانيا، فقد توقف التحقيق بشأنها واختفى الاهتمام بالموضوع من أجندة السلطة الجديدة، رغم أنه من اللافت للانتباه أن تكتشف خلية استخبارات ليبية في نواكشوط مجهزة بآليات للتصنت والمراقبة في ظرفية توجد فيها خلافات قوية بين القذافي وبوسيف وتتم تصفية هذا الأخير بعد ذلك بثلاثة أيام! هل كان هؤلاء في رحلة استجمام على شاطئ المحيط الأطلسي؟ هل كانوا يمثلون الخلية الليبية الوحيدة على التراب الموريتاني؟ أم كانوا جزء من فريق وصل موريتانيا بهدف تنفيذ مهمة خاصة؟
يكشف إغلاق التحقيق بشأن هذه الخلية حجم النفوذ الليبي داخل السلطة الجديدة، كما أنه بالإضافة إلى الامتناع عن فتح تحقيق حول أسباب تحطم الطائرة، يفضح إرادة تلك السلطات في حجب المعلومات المتعلقة بمختلف الملابسات التي اكتنفت الحادث المأساوي.
فهل يمكن أن يعني ذلك أن الليبيين كانوا متورطين في حادثة الطائرة وتمكنوا –عبر الجناح الموالي لهم في نواكشوط- من إخفاء معالم الجريمة؟ أم أنه ليس هناك ما يؤكد فرضية التورط الليبي في تصفية رئيس الوزراء؟