رغم الدماء الغزيرة التي سالت على مذبح «الثورة الصحراوية»، وما كابده ويكابده المجتمع الصحراوي من معاناة وويلات متواصلة منذ خمسة عقود، فإنه لم يتأت إلى الآن أفضل بالنسبة لهم مما قررته اتفاقية مدريد الثلاثية بين الدولتين المتنازعتين على الصحراء (موريتانيا والمغرب) وبين المحتل الإسباني. وكان المختار ولد داداه قد خاض مفاوضات صعبة وعسيرة شهدت الكثير من الجلسات الطويلة والمرهقة، إلى أن حصلت موريتانيا على اعتراف مغربي لها بحصة كبيرة من الأرض، مما مثّل مكسباً ثميناً يستحيل أن تحققه بأي أسلوب آخر، كما يستبعد أن تجلبه على يد مفاوض آخر غير المختار الذي عرف بحنكته وصبره التفاوضي وطول نفَسه في الحوار والمناقشة.. لاسيما أن الطرف الآخر هو المغرب الذي كان يطالب بموريتانيا نفسها، وملكه الحسن الثاني الشهير بدهائه وطول باعه في المراوغة السياسية.
وقد تم توقيع اتفاقية مدريد، وما سبقها وأعقبها من مفاوضات موريتانية مغربية طويلة وشاقة (كتب عنها الدبلوماسي والوزير المغربي السابق "العربي المساري"، وتحدث عن المختار باعتباره أحد أبرع المفاوضين في العالم)، كل ذلك بعلم زعماء المجتمع الصحراوي وبرضى تام منهم، إذ كانوا جميعاً يترددون على نواكشوط وكان الرئيس المختار يضعهم كل مرة في تفاصيل الصورة بوصفهم مواطنين موريتانيين تحت الاحتلال الإسباني. كما كانت الجزائر على علم دقيق بما يجري في هذا الشأن، وكان هواري بومدين يقول لكل من المختار والحسن الثاني: الجزائر ليست طرفاً ولا مطلب لديها في الصحراء، وكل ما يهمها هو أن تخرج إسبانيا، وبعد ذلك سنبارك لكم ما تتفقون عليه حول الصحراء ومصيرها.
ورغم الاتهامات الكثيرة والشتائم التي لا تتوقف من جانب الصحراويين (وطابورهم الخامس الموريتاني) ضد الرئيس المختار، فقد أثبتت الأحداث والوقائع والمآلات، أنه كان أعقل كثيراً وأبعد نظرا من شبابهم الثوري المتحمس الذي أعمته أفكار اليسار العالمي وخطف أنظاره بريق البترودولار الجزائري.. فحملوا السلاح الجزائري ليحاربوا به إخوتهم الموريتانيين حرباً عبثية لم يراعوا فيها حرمة الآمنين المسالمين من سكان البوادي والمدن، ولم يتورعوا فيها عن انتهاك أي حرمة أو حد. لكن الحرب والعناد لم يزيداهم إلا معاناة على معاناة ولجوءاً طويلا على لجوء أطول. ورغم إطاحة المختار من الحكم ونزول الذين أطاحوا به على كل مطالب جبهة البوليزاريو وشروطها لإيقاف الحرب (بما فيها الاعتراف، والانسحاب من تيرس الغربية)، فإن الجبهة عجزت حتى عن وضع يدها على إقليم وادي الذهب الذي كان تحت سيادة موريتانيا وأخلته لها، فأصبح ذلك الإقليم تحت السيطرة المغربية هو أيضاً، وظلت البوليزاريو عالقة مع مؤيديها في صحراء الجزائر وسط ظروف مناخية وبيئية صعبة للغاية وتحت خيام لا تصلح للحياة الآدمية الكريمة. وها هي الآفاق اليوم مسدودة كلياً أمام مشروع «الدولة الصحراوية» التي وُعدت بها «البوليزاريو» وجعلت الصحراويين يدفعون كل هذه التضحيات من أجلها، إذ لن يكون أمامهم في الأخير إلا خيار واحد هو أن يعيشوا كأقلية وسط أغلبية من المواطنين المغاربة في إقليمي الساقية الحمراء وواد الذهب.
هذا بينما أتاحت لهم اتفاقية مدريد خياران معقولان للغاية، كان أحدهما التركز في وادي الذهب (ولاية تيرس الغربية) بامتداده الموريتاني الواسع كوطن كانوا ليصبحوا أسياداً مبجَّلين فيه، لو أنهم تحلوا بقليل من الصبر والحكمة والتواضع.. لكنهم اختاروا طريق الحرب والقوة والنزال دون أن يملكوا مقوماته المادية والبشرية (أحرى عن مقومات الدولة)، فأصبحوا رهينة بيد من يقدم السلاح والطعام؛ يفعل بهم ما يشاء في ألاعيب سياسات إقليمية لا ينبغي لجزء من مجتمع الناطقين بالحسانية أن يدفع ثمنها من معاناته بلا مقابل.. فيا لهفي عليهم.