أظهرت الحكومة الموريتانية الضعف والخور، في أزمة الممر الحدودي؛ فوقفت كالمتفرج "الأهبل" على إهانة سيادتها، والإضرار المباشر بمصالح مواطنيها؛ وذلك بوقف صادراتها ووارداتها الغذائية الحيوية بالقوة، بدون ذنب ارتكبته ولا حد تجاوزته.
وهذه بعض التفاصيل الخلفية:
***
أثار إغلاق ممر الـﮕــرﮔـرات من قبل عناصر تابعة لجبهة "بوليزاريو" جدلا واسعا، اختلطت فيه التفسيرات والمواقف بالذكريات المؤلمة والحقائق السياسية والعسكرية المتحكمة...
بالتأكيد نحن الموريتانيين لسنا مغاربة، لنتورط في الدفاع عن المغرب أو الوقوع في تقييم سياساته.
ولكننا من الناحية السياسية على الأقل لا ننتمي لـ"البوليزاريو" ولسنا من رعايا الجمهورية الصحراوية، لنبارك وندافع عن تصرفاتها الدعائية التي ظاهرها إزعاج المغرب وباطنها ازدراء موريتانيا والاستخفاف بالضرر بها...!
هناك أمر مسلم لا جدال فيه ولا مجال للمزايدة ألا وهو الأخوة والوحدة الاجتماعية والتاريخية والجغرافية بين الموريتانيين والصحراويين، وهي وحدة لن تزال قائمة وراسخة أبد الدهر، مهما كانت الشعارات السياسية والانتماءات الرسمية؛ ولكن انتبهوا: هذه الوحدة ممتدة إلى حيث توجد الدراعة والملحفة وأژوان والكسرة و"لماعين"... أي أنها تشمل الصحراويين المحصورين في المخيمات في الجزائر، والصحراويين المقيمين في ديارهم بالصحراء (تحت الحكم المغربي) تماما وبدون أي فارق!
لقد دخلت موريتانيا، أو أدخلت على الأصح، حربا مؤلمة فقدت فيها الكثير، وتعرضت فيها لتمييز بالقتل والاستهداف من طرف "جبهة بوليساريو"، لأنها كانت تبدو الحلقة الأضعف!
أيضا تلقى عدد كبير من الموريتانيين الذين ظاهروا تلك الجبهة إلى درجة الانخراط في صفوفها المقاتلة، إما انسياقا وراء دعايتها "النضالية" أو نكاية بالنظام السياسي الموريتاني، تلقوا، أو أكثرهم، في النهاية من سوء المعاملة والتعذيب في "المخيمات" ما تشيب له الولدان وتنهد الجبال.
ولا ريب أن اليسار الموريتاني وأنصاره، من "الكادحين" وبعض "القوميين"، الذين يميزون بين وحدة وأخرى وانفصالات وأخرى! قد اتخذوا من تلك الحرب مواقف تنحط إلى مستوى "الخيانة الوطنية" بتأييدهم ومساندتهم السياسية، وأحيانا العسكرية، لطرف يشن، أو شن، حربا دامية على وطنهم ودولتهم وجيشهم وإدارتهم وشريان اقتصادهم...!!
وبسبب جفاف الروح الوطنية وانشغال الأنظمة الانقلابية الحاكمة بمصالحها الشخصية الآنية وإهمال المصالح العليا للدولة، لم تعط هذه القضية حقها؛ لأن تلك الانظمة ـ لذات الأسباب ـ أهملت أبناءها من الضباط والعسكريين والمتطوعين المدنيين (في الإدارات والقوات الشعبية) الذين ضحوا بدمائهم وفقدوا أرواحهم دفاعا عن سيادة الدولة الموريتانية وتحت علمها.
لقد كشفت تلك الحرب المأساوية يومها عن صورة جميلة وسط قبح الحرب، جديرة بالتدبر؛ صورة من الوحدة والانسجام بين مكونات النسيج الاجتماعي الموريتاني، في سوح القتال؛ حيث كان الجميع في التضحية والإقدام سواسية؛ من كل لون وكل فئة وكل جهة، وفي جميع مستويات وتراتب الجيش الوطني والإدارة العمومية... لأن الجميع كان ـ يومها ـ موقنا بما يرى من أمارات ومعاني الدولة الوطنية.
فما دام هؤلاء قد نُسُوا واحتقرت بطولاتهم وأهملت أراملهم وأسرهم؛ كأن لم يكن لهم وجود ولا دم ولا روح ولا أهل ولا أحباب... فلا غرابة في أن يفتخر البعض في ذات الوقت بمواقفهم الخيانية إلى جانب "العدو"، دون خشية ولا حياء؛ فذاكرة الدولة باتت لا تتجاوز آخر انقلاب مكّن من السلطة!
وهذه، لعمري، زلات وخزي لم يسجله التاريخ في أي دولة، مهما كان كره نظامها السياسي ومعارضته. فكأننا فعلا بلا دولة، أو بلا رغبة أن تكون لنا دولة، كالآخرين بمن فيهم الصحراويين الذين على الأقل يمتلكون دولة في وجدانهم وخيالهم، يقيمونها بتكريم وتقديس قتلاهم في الحرب مع "المستعمر الموريتاني"، مثلا...!
ولكن موريتانيا لم تعد مستعمِرا ولا محتلا؛ فقد انسحبت وتابت واعترفت واعتزلت... ولكن يبدو أن ذلك لا يكفي! فقد ظلت موريتانيا، وما تزال، هي الحائط القصير و"لحم الرقبة" في نظر وسلوك الإخوة الصحراويين.
ومع ذلك فقد أحسنت الدولة الموريتانية بمعاملتها، قبل وأثناء وبعد الحرب، للصحراويين جميعا معاملة مواطنيها؛ سواء كانوا من مزدوجي الانتماء، أو كانوا من المعادين لها... فذلك هو اللائق بها وهو ما ينبغي أن يكون ويستمر، ولو أن بعضه راجع لضعف سلطان الدولة وقوة الآصرة القبلية والمصالح الخاصة!
**
ولكن ماذا عن المملكة المغربية؟
لعل كثيرا منا يتذكرون الموقف المغربي المعادي لقيام الدولة الموريتانية المستقلة، والمَطالب السيادية لها على البلاد الموريتانية؟
وهي بالمناسبة مطالب في نظرهم استندت إلى حجج قوية من التاريخ والعلاقة والتراث المشترك، في ظل انعدام أي سلطة سيادية أخرى على البلاد قبل المستعمر الفرنسي الذي حكم المغرب أيضا.
إن الصلات التي تربط البلدين، حتى على مستوى العلاقات مع الملوك والسلاطين الشرفاء في المغرب، مخلدة، منثورة ومنظومة في الثقافة الشنقيطية على ألسنة وأقلام العلماء والشعراء عبر العصور؛ فقد كان معظم سلاطين المغرب أهل علم وأدب؛ يقدرون العلماء ويجلونهم... بالإضافة إلى علاقات مصاهرة ونسب معروفة.
لكن مواقف وسلوك المملكة المغربية، منذ اعترفت باستقلال وسيادة الدولة الموريتانية سنة 1969م كانت كفيلة بنسيان ذلك الموقف وتجاوز أي تأثير سلبي لتلك المطالب المرفوضة على أي حال.
فقد عملت المملكة على إقامة علاقات أخوة واحترام حسنة مع موريتانيا، وعندما تعرضت هذه الأخيرة للتهديد والاستهداف في حرب الصحراء، تدخلت القوات المغربية فأحسنت البلاء في تقديم الدعم العسكري واللوجستي المباشر، وأرسلت كتائب مجهزة للدفاع عن المناطق المهددة في ازويرات وبير أم غرين وغيرهما...
ورغم الانقلاب العسكري على نظام ولد داداه وإلغاء اتفاقية مدريد وقرار الخروج من الحرب، وتسليم تيرس الغربية (الموريتانية) للبوليساريو... لم تتدخل المغرب في الشأن الداخلي الموريتاني؛ بل استجابت بسرعة لطلب الانقلابيين سحب قواتها التي كانت تدافع عنهم!
وهو احترام واضح لسيادة الدولة الموريتانية رغم موقفها الخاذل!
وقد ظلت المغرب وفية للتعاون والتفاهم مع موريتانيا، رغم اتهامها بدعم محاولة انقلاب 1981 الفاشلة، والرد القوي عليها بقطع العلاقات...
وفي أحداث 1989 مع السينغال، تدخلت المملكة المغربية وأرسلت طائراتها لإجلاء المئات من الموريتانيين من دكار وبانجول...
ولا ينبغي أن ننسى الرد المغربي الودي على استفزازات نظام ولد عبد العزيز التي أدت إلى تدخل جبهة بوليساريو لقطع طريق "الـﮕــرﮔـرات" (دون منع عبور الشاحنات يومها)، والتصريحات الطائشة لسياسي حزبي مغربي ضد موريتانيا، مما أدى لأزمة 2016 التي سعى المغرب إلى احتوائها بسرعة وتواضع؛ فأرسل رئيس حكومته إلى ازويرات للقاء الرئيس الموريتاني، والاعتذار والاسترضاء...
ومن الإنصاف وذكر الحقائق التنويه بالمعاملة الطيبة، المضاهية لمعاملة المواطنين، التي ظل الموريتانيون ولا يزالون يحظون بها في المملكة المغربية، بغض النظر عن طبيعة وجودهم أو انتمائهم في موريتانيا...
كما تعد المغرب منذ عقود أكبر مقدم للمنح الدراسية للطلاب الموريتانيين في كل المستويات الدراسية.
هذا ومن الملاحظ أيضا أن المغرب لم تعتب على موريتانيا، أو تحاول التأثير في العلاقات الأخوية التي تربط موريتانيا بشقيقتها الجزائر.
وللجزائر مكانتها الكبيرة المستحقة لدى الموريتانيين، دولة وشعبا، والتي تسمو فوق النزاع المزمن بين المغرب والجزائر؛ وهو نزاع تكتوي به كافة شعوب المنطقة، ويعتبر من الأسباب الأساسية في استعصاء حل مشكلة الصحراء، والعقبة الكأداء في طريق بناء المغرب العربي الكبير الذي يحلم به كافة أبناء المنطقة.
**
وخلاصة القول هي أن موريتانيا قد خرجت من نزاع الصحراء، والتزمت بالحياد بين طرفيه الرئيسيين، ولكنها مع ذلك ما تزال تكتوي بشرر هذا النزاع المستطيل، ويعتبرها الطرفان، وخاصة الصحراويين، الحلقة الضعيفة التي يمكن استغلالها في أي وقت للإضرار بالطرف الآخر أو حتى لإزعاجه!
ومن الملاحظ المؤسف أن الحكومة الموريتانية تبدو خاضعة لهذا الاستهداف، مستكينة وضعيفة؛ لا تقوى أو لا تريد الدفاع عن مصالح مواطنيها وحمايتهم من تأثيرات نزاع الأخوين.
فقد كان المفروض أن تستغل القيادة الموريتانية علاقاتها الحسنة بالطرفين: المغرب والبوليساريو لتقول لهما: نرفض أي ضرر بمواطنينا مهما كان، ولا نقبل أن نظل الحلقة الضعيفة التي يتلاعب بها هذا الطرف ليهدد الطرف الآخر...!!
غياب الدولة الموريتانية وانعدام تحركها أو تأثيرها يعطي فعلا الطرفين ـ وحتى المواطن العادي ـ الانطباع، وربما الاقتناع، بأن موريتانيا بلا وزن ولا قيادة تراعي مصالح شعبها واستقرار عيشته وحرية حركته...
أما مسألة الاعتماد على التزود من المغرب أو غيره، وعجز موريتانيا عن زراعة حاجاتها البسيطة من الخضار والبقول... فهي سيئة وفشل فاضح،ِ ولكن تلك مسألة أخرى خارجة عن موقفها الضعيف والمستكين تجاه قضية إغلاق معبر على حدودها دون أي تشاور معها أو اعتبار لها أو احترام...