
على الرغم من علمنا بمآلات المرض الخبيث، كان خبر رحيل يحيا ولد أحمد ولد طالبنا صادمًا، فالفقد دائمًا مؤلم، خاصة حين يكون الراحل ممن تركوا أثرًا عميقًا.
لقد أدى يحيا دوره في الحياة كاملًا، ووفّى بواجبه تجاه فضائه الساحلي الصحراوي، ليس فقط بحثًا ودراسة، بل إحياءً للثقافة والتاريخ، ومدًّا للجسور بين الناس والدول. لم يكن مجرد باحث، بل كان رسول معرفة، يعمل بصمت وإصرار لإعادة وصل ما انقطع، واستعادة ما كاد أن يُطمر تحت ركام الزمن والعزلة.
لقد حمل على عاتقه مشروعًا حضاريًا كان بالنسبة له هاجسًا شخصيًا، فانبرى خاليًا إلا من وضوح الرؤية، وقوة الدافعية، وعزيمة لا تلين. جاب الصحارى والجبال، اقتفى أثر المخطوطات والكنوز المعرفية في المكتبات الأهلية، وبذل الجهد والوقت لإقناع أصحابها بالكشف عنها. حدّثني، رحمه الله. عن معاناته في كسب ودّ هؤلاء، وكيف كان يقيم بينهم الليالي ذوات العدد، يخدمهم، يفاكههم، بل ويدلّك أطرافهم (لمراسه) حتى يظفر بمخطوط نادر أو وثيقة قيّمة.
لقد جمع كنزًا معرفيًا لا يقدّر بثمن، يحتوي غالب ما في الإقليم المغاربي والسوداني والصحراوي من مخطوطات، خاصة ما يتعلق بقومه الكنتيين وفضائهم الثقافي. كان يعي حجم ما جمع، لكنه مع نزول المرض صار منشغلًا بمصير هذه الثروة، حائرًا في كيفية التعامل معها. قبل أشهر، أخبرني أنه يحتفظ في مقطع لحجار بذاكرة رقمية تكدّست فيها "تيرابايتات" من الوثائق، حتى إنه لم يعد يستطيع حصر محتواها. ومع ذلك، لم يُنشر من هذا الإرث العظيم إلا القليل، وما طُبع لا يعدو أن يكون نقطة في محيط.
لقد ترك خلفه عملًا ضخمًا، ومسؤولية جسيمة تقع علينا جميعًا؛ حفظًا لتراثه، ووفاءً لذكراه، وتقديرًا لجهده الذي أفنى فيه عمره. فأيها الإخوة، خذوا تلك الودائع المخطوطة بقوة، ولا تدعوا ما جمعه يضيع.
رحم الله يحيا، وأسكنه فسيح جناته.
محمد ولد شيخنا