
لا يمكن الحديث عن ترسيخ الوحدة الوطنية دون التناول الصريح والصادق للمشاكل البنيوية التي يعاني منها المجتمع وصاحبت تأسيس الدولة في ستينيات القرن المنصرم، إنها مشاكل عديدة تطورت مع الزمن، وباتت الحاجة لتقديم حلول لها أكثر إلحاحا وأكثر مصيرية، إن تجاهلها يشبه لحد كبير فلسفة النعامة التي تضع رأسها في الرمل حتى ينتهى الخطر المحدق بها ثم ترفع رأسها، إن مشكلة الخطر هو طبيعته المجهولة والتي قد لا تمنح فرصة ثانية لرفع الرأس مجددا.
إن طبيعة العالم اليوم والأزمات الكبيرة التي تعرفها منطقة الساحل وأنتجت ضمن عدة مخرجات دولا فاشلة وحروب أهلية ذات طابع عرقي وطائفي وديني، والوضع على المستوى العربي وفي المنطقة العربية ليس أفضل بكثير حيث تتكاثر الهويات الفرعية على حساب الهوية الجامعة وتتضافر معطيات الانقسام والتفكك.
إنه واقع جدير بالتفكير والتأمل وجدير بأن يشغل حيزا كبيرا من اهتمام صانع القرار الوطني واهتمام النخب التي تفكر أساسا في استمرار المشروع الوطني للدولة الموريتانية وتفكر أيضا وهو الأهم في تجنب الأزمات والمشاكل التي تزخر بها المنطقة العربية ومنطقة الساحل الإفريقي إنها مسؤولية الجميع وليست أساسا ضمن المهام الخاصة بالسلطة دون المجتمع ودون أصحاب العقول والمشاريع السياسية والاجتماعية، والوقت المناسب للتفكير في حلول عميقة وجذرية هو الآن، إن تجاوز هذه المرحلة دون التأسيس لحلول وطنية كبرى تضمن استمرار الكيان الموريتاني، قد يعرض لا قدر الله هذا الكيان لأخطار حقيقة عصفت بدول وكيانات أقوى وأعرق وكان السبب هو تضييع الفرص على الحوار وعلى التفكير في حلول وتسويات للمشكل الوطنية.
إن مثال حاجتنا لوحدة وطنية وتكامل وطني في نموذجنا البدوي التقليدي يشبه الخيمة التي تقف في وجه الريح العاتية بـ"اركيزة" ثابتة و"اخوالف" متوازنات لشدها في مواجهة الريح، إن أي فقدان للتوازن في أي اتجاه يجعل الخيمة في مهب الريح.. لكنها في حال التوازن والثبات لاتهاب الريح وتستمر منتصبة تستمد قوتها من تكامل جميع العناصر
المكونة لها.
أولا - البعد السياسي:
إن أزمة الوحدة الوطنية في أي بلد متعدد ومتنوع ترافق عادة مراحل تأسيسه الأولى، وهو ما حصل في الحالة الوطنية الموريتانية، حيث برزت المشكلة في مؤتمر ألاك 02 - 05مايو 1958 وانسحب بعض المناديب الزنوج عن فعاليات المؤتمر بعد طرح مشكلة التعايش بين القوميات الوطنية العرب والزنوج، وأوفد لهم الرئيس الراحل المختار ولد داداه، رحمه الله، مبعوثا من طرفه وهو سيد المختار ولد يحي انجاي، رحمه الله، للتفاوض معهم، وتم الاتفاق على تشكيل لجنة يرأسها كل من محمد ولد الشيخ، وكاي سيلي سوماري، رحمهما الله، لتقديم مقترحات حول موضوع التعايش وتعزيز اللحمة الوطنية في إطار دولة
جامعة لكل مكونات الشعب الموريتاني، ولم تخرج أي مقترحات لحد اللحظة.
وبعد الاستقلال لم تنشغل النخب الوطنية بالبحث عن حلول جذرية للمشكل سواء تعلق الأمر بموضوع: الهوية، التعايش، اللغة، وكانت الحلول دائما حلولا تكتيكية تتجلى في مظاهر تمثيل سياسي أو حضور في بعض المناصب الحكومية، إنها حلول شكلية لا تحمل عمقا حقيقيا لتجاوز المشكل القائم، وهو مشكل حقيقي لا يمكن الاستمرار في التغافل عنه.
ولاحقا عرفت البلاد عدة أحداث أليمة ) 1966 – 1979 – 1989 – 1990( كرست من وجود هذا المشكل بل ونقلته من المناكفات السياسية، إلى واقع آخر وهو المظالم الوطنية والمظالم التاريخية والدعاوي الحقوقية، إن الأحداث الأليمة نقلتنا لواقع أسوأ حيث الإرث الإنساني والإحساس الملازم لذوي الضحايا بالقهر والظلم...
إن هذا الواقع الذي كرسه تسيير السلطات الإدارية الماضية لملف سياسي واجتماعي بمنطق تعوزه الحكمة، واقع خطير ويحتاج في حله لشجاعة وعقل، عقل يستشرف المستقبل ويحمل آمال الموريتانيين في نهضة دولتهم واستمرارها على أساس من الاستقرار والتعايش، إن الشجاعة في هذا الموضوع مطلوبة من الجميع: النخب الوطنية والسلطة الحاكمة ومن ذوي الضحايا، حيث أن الحل في مثل وضعيتنا شبيه إلى حد كبير بالحل الذي تم اتباعه في عدة بلدان مجاورة المغرب نموذجا، إن صوت العقل يقول دائما إن المصالحات الكبرى هي التي تؤسس للاستمرار والاستقرار والمصالحات لا تكون دون تنازلات ودون تعويض يناقش بالتفصيل مع ذوي الضحايا ويجدون فيه الترضية المناسبة، إن الوقت الراهن ليس في صالح المحاكم الكبرى وتحقيق العدالة في الجناة، والغالب منهم أفضى إلى ما أفضى إليه، هل يمكن تنفيذ أحكام قضائية في موتى، وغالبية المتهمين بتلك الأحداث عند ربهم.
إن المطلوب في هذه الحالة هو موقف شجاع من النخب الوطنية ومصالحة حقيقية تتجاوز هذا المشكل نهائيا والمطلوب من السلطة تطبيقه والسهر على حمايته كمكتسب وطني يتم التأسيس عليه في صياغة تفاهمات وطنية حول طبيعة الحكم وآليات الحضور والمشاركة والتمثيل السياسي.
هذا عن المتعلق بمشكل الزنوج وهو مشكل من ضمن عدة مشاكل وطنية أخرى تتطلب حلولا وشجاعة في التسوية، يبرز غير بعيد مشكل إرث العبودية، وهو أقل تعقيدا من مشكل الزنوج حيث لا يحمل بعدا ثقافيا ولا لغويا مختلفا عن باقي المكونات في البلد، وهو بشكل آخر مشكل داخل مختلف شرائح المجتمع الموريتاني.
حيث أن جزءا من هذا المجتمع ومكونا أساسيا ومحوريا من مكوناته تعرض لمظلمة تاريخية وغبن اجتماعي، ومجمل النخب الوطنية سواء من داخل مكون أصحاب هذا الإرث أو من المكونات الأخرى تجمع على وجود هذا المشكل وأن حلوله الجذرية تكمن في التمييز الإيجابي على مستوى التعليم ومستوى التوظيف وعلى ضرورة تشجيع رجال أعمال من هذا المكون.
في هذا الصدد يمكن لنا أن نضيف أو نقترح أن الوقت قد حان لخلق طبقة متوسطة عريضة من هذا المكون، طبقة متوسطة من الموظفين ومن أصحاب الأعمال والمشاريع المتوسطة، إن الرؤية الوطنية اليوم تقتضي بتضافر جهود الجميع النخب والسلطة بضرورة فرض هذه الطبقة المتوسطة من هذا المكون، إنها في الأساس عملية اقتصادية لكنها ضرورة وطنية ولبنة حقيقية في صناعة المستقبل الموريتاني ونزع فتيل أزمة اجتماعية حادة وترسيخ لركيزة من ركائز الوحدة الوطنية.
ثانيا - البعد الثقافي و الإجتماعي:
غالبية البلدان بعد الحصول على الاستقلال تجري مراجعات عميقة للتخلص من الإرث الاستعماري ومن مخلفاته السياسية والثقافية والاقتصادية وذلك لتكتمل السيادة الوطنية، بروح وثابة نحو المستقبل والبناء، انطلاقا من الخصوصية الثقافية والاجتماعية للبلد دون حضور البصمة الاستعمارية، والتي يشكل أي مظهر من مظاهر حضورها تجليا من
تجليات نقص السيادة.
إن الحالة الوطنية شديدة التعقيد في هذا الصدد حيث لم تتمكن النخب الوطنية التي ورثت المستعمر، واستلمت مشروع الدولة الحديثة من حسم موضوع الهوية وموضوع اللغة وظلت المخلفات الاستعمارية قائمة تمس من السيادة الوطنية، وتشكل خطرا مستقبليا محدقا وتنتج مع الوقت نخبا متباينة في التفكير ومتباينة في اجتراح الحلول والتصورات، إن اللغة عكس المنطق المتداول ليست مجرد وسيلة للتواصل، إنها وسيلة لخلق الأفكار وصنع الأجيال وفق محددات ذهنية وأدبية كامنة في اللغة، وهو ما يشكل خطرا حقيقيا .. إنه يشبه فشلا مؤجلا ننتظر أي لحظة السقوط في قعره، دون أن نتمكن من التخلص أو النجاة.
إن التأخر في حسم ملف اللغة يضاعف كل يوم خسارتنا الاجتماعية ويعزز من حجم الخطر المحدق، ولا يمكن التعويل بتاتا على أي حلول شكلية في هذا الصدد، إنه جانب لا يمكن اللعب فيه.. إن الحل هنا قد لا يكون مرضيا، وقد لا يكون مريحا في البداية لكن نتائجه المستقبلية ستكون في صالح الجميع والأهم أنها ستكون في صالح الوطن.
إن حسم موضوع اللغة العربية كلغة رسمية وتعزيز حضور ومكانة اللغات المحلية لمكونات الشعب الموريتاني هي العامل والمعطى القادر على تحييد الخطر ومشاركة الجميع في حماية مستقبل بلدهم والدفاع عنه، إن الخصوصية الوطنية مريحة في هذا الصدد حيث يعتنق الجميع دينا واحدا ومذهبا دينيا واحدا، ظل مع الوقت حاضنة للجميع وشكل حماية وحصانة ضد العديد من الأخطار والأزمات، وهو ما يجب أن يكون أرضية للتوصل لحلول في هذا المنحى.
إن الحل هنا لا يمكن أن يكون إلا جماعيا وبمشاركة وحضور مختلف النخب الوطنية والشخصيات المرجعية والمعنيين والمهتمين بالمجال العام، ولا يمكن تجاوز أي وجهة نظر أو أي مشروع سياسي أو اجتماعي يقدم رؤية في هذا الصدد، إنه ملف الجميع ومستقبل الجميع، والخطر الذي يشكله عدم حسمه يشكله على الجميع.. إن نماذج عديدة من بلدان مختلفة تتفوق علينا في العرقيات والإثنيات والطوائف والأديان، ونجحت في حسم ملف اللغة وقادت مشاريع تنموية ويمكن أن تكون نموذجا في هذا الصدد، إن النموذج ينبغي أن يظل دائما قائدنا نحو النجاح وبأقل خسائر ممكنة.
ختاما:
إن الحلول والمقترحات المقدمة هنا حلول تستحضر صوت العقل وتفكر في الوقت بدل الضائع، وتمد اليد لجميع النخب للبحث والتفكير سويا في حلول. إن المشاكل المعروضة اليوم هي نفسها المشاكل التي كان من المناسب تقديم حلول لها في نهاية الخمسينات والستينات، والتوصية في هذا الصدد هو استغلال الوقت، فالتفكير والنقاش والبحث في التصورات لا يمكن أن يكون إلا في ظل الاستقرار، والظروف السياسية مع النظام الحالي تمثل أرضية صالحة للتفكير في الحلول النهائية للمشكلة، إنها فرصة أخيرة لمن يريد تجاوز حقل الألغام وتفكيكه منعا للانفجار الذي لا يمكن مطلقا التوقع بشأنه ولا بمدى انتشاره .. إنها فرصة ولا يجب أن تضيع أبدا.
أتقدم بجزيل الشكر لمندوبية التآزر.. أتقدم بالشكر والتهنئة حيث أنها بتنظيم هذا العمل أدركت فعلا دورها وهو أنه لا يقتصر على أنشطة اقتصادية واجتماعية ومساعدة الأسر الضعيفة، إن هذا العمل يكون دون جدوى إذا لم يكن على أرضية صلبة من التعايش والتسامح وتعزيز المشترك بين مكونات الشعب، وهذا لا يكون دون نقاش ودون آراء ومقترحات الجميع.. شكرا جزيلا.
دفالي ولد الشين
انواكشوط. 20 فبراير