أخيرًا، تم اتخاذ قرار تاريخي بنقل العاصمة الموريتانية من سينلوي بالسنغال إلى أنواكشوط. وتم التوقيع على مرسوم النقل بتاريخ 24 يوليو 1957. وقد بات من المؤكد الآن، بأن المدينة الوليدة سيتم تشييدها فوق هذه الكثبان الرملية العارية، في ربوع تغفو على سمفونية أمواج المحيط الهادر، ولا يطرق فيها المهاجع في سكون الليل سوى عُواء الذئاب وبنات آوى، وهي تجوب المكان بحثا عن فرائس أو بقايا طعام.
صحيح أنه "لا توجد هنا مصادر للطاقة، ولا مواد البناء، ولا حتى أيادٍ عاملة، ولكن، ورغم كل ذلك، هذا الميدان هو الذي سنخوض فيه المعركة".. هكذا يلخص الأستاذ المختار ولد داداه، أول رئيس للجمهورية، ملحمة بناء أنواكشوط، أو العاصمة التي ستخرج كالقوقعة من بين أضلاع الرمال.
ومن أجل تحاشي أي نزاع قد يحصل على ملكية الأرض المخصصة لإيواء العاصمة الجديدة، عرض مجلس الحكومة الموريتانية عددا من القطع الأرضية على المتضررين كتعويض لهم عن مصادرة الدولة لأراضيهم، كما كشفت عن ذلك الباحثة "أرميل شوبلين"، في أطروحتها للدكتوراه حول موضوع "بناء عواصم بين العالم العربي وأفريقيا السوداء: نموذجا أنواكشوط في موريتانيا والخرطوم في السودان-دراسة مقارنة"، التي قدمتها في جامعة السوربون سنة 2006، مستندة إلى وثائق من الإرشيف سبق أن اطلعت عليها الباحثة.
وفي هذا السياق، جرى توقيع محضر اتفاق في سينلوي في شهر نوفمبر 1958 بين السيد رينيه بيريز René Perez,، حافظ الملكية العقارية في سينلوي، وممثلين عن فخذ "إشوگانن" من قبيلة "تندغه"، كإجراء لتوثيق الحقوق العرفية التي تعود للمجموعة على الأراضي في أنواكشوط. وقد نص المحضر على أنه "لا توجد سيطرة فعلية على الأراضي، ولكن يتم تأكيد الحقوق العرفية للمجموعة بحكم المراسيم العقارية الصادرة بهذا الخصوص بتاريخ 20 مايو 1955 و10 يوليو 1956. وهكذا، وافق فخذ "إشوگانن" على عدم إبداء أي اعتراض على تسجيل تقطيع الأراضي التي ستشكل القطاع رقم 1 من العاصمة أنواكشوط، عندما تنتهي الآجال القانونية للطعون المتعلقة بتسجيل الملكية العقارية الجديدة.
وفي المقابل، فقد وعد مجلس الحكومة الموريتانية بتخصيص 100 قطعة أرضية في أنواكشوط، لفائدة من فقدوا أراضيهم لصالح إقامة العاصمة الجديدة. ولعل مجلس الحكومة قد استحضر عند قراره آنذاك، الحكم في نازلة أسبقية ملكية الأرض، الذي تذكر المصادر بأن العلامة أعمر ولد المختار النابغة القلاوي، المتوفى سنة 1848م، قد أصدره في نزاع يتعلق بمن يحق له الإشراف على مرفئ "بورتانديك"، مؤكدا أسبقية قبيلة تندغه بملكية أراضي الساحل البحري، وهو الحكم الذي لخصه بقوله المشهور:
واعلم أن الأرضَ أرضُ تنْدَغَا *** ومن أراد سبْقَهُم فقد بَغــَــى
وبعد اتخاذ كل هذه الإجراءات، فكل ما تبقى هو تعبئة الموارد المالية اللازمة لبناء أنواكشوط لتكون العاصمة الجديدة للدولة الفتية ومركز السلطة وصناعة القرار فيها.
وهكذا، تم توفير أول جزء من التمويل المطلوب وهو مبلغ 700 مليون فرنك غرب أفريقي، قُيِّد على حساب الحكومة الموريتانية، وقد أضيف إليه مبلغ آخر قدره 800 مليون فرنك غرب أفريقي، تمت تعبئته من طرف صندوق الاستثمار الاستعماري فيدس FIDES. باختصار، رصدت الدولة الفرنسية ميزانية قدرها 1.5 مليار فرنك غرب أفريقي لبناء مدينة أنواكشوط. وهو مبلغ متواضع بلا شك، ولكنه كان يعتبر آنذاك مبلغًا كبيرًا في نظر موريتانيا الفتية. وفي يوم 9 فبراير 1957، قدم الحاكم الإستعماري لموريتانيا ألبير لويس موراگ، رسميا الميزانية المخصصة لتشييد العاصمة أنواكشوط.
أما بعد تعبئة الموارد المالية، فلم يبق سوى التخطيط لإقامة العاصمة الجديدة. وقد بدأت بالفعل جهود حثيثة في اتجاه وضع الخطوط العريضة للمخططات العمرانية للمدينة الجديدة في نفس العام 1957.
في البداية، تم رسم أنواكشوط من طرف الحاكم الإستعماري موراگ نفسه. فقد قام آخر حاكم استعماري لموريتانيا، وهو شخص يبدو أنه كان مهتما بالتخطيط الحضري، بأول محاولة لوضع مخطط عمراني لمدينة أنواكشوط، رغم أنه لم يكن بعدُ قد عرف بالتحديد في بداية عام 1957، أين سيتم بناء العاصمة؟ هل ستكون على الشريط البحري الساحلي؟ أم في بلدة أجريْدة؟ أو في مكان آخر؟ وقد تم في ما بعد، تطوير ذلك المخطط الأولي من طرف مصالح الطبوغرافيا الاستعمارية المختصة.
لاحقا، تم استدعاء متخصصين في تخطيط المدن للمساعدة على تخطيط أنواكشوط. وهكذا، في مارس 1957 أجريت سلسلة مسوحات طبوغرافية، أفضت إلى إدراك أن الموقع الوحيد الممكن لبناء المدينة هو الهضبة الرملية الواقعة جنوب الكثيب الرملي الكبير الذي اتضح بأن رماله كانت شديدة الحركة. أما الشريط البحري الساحلي فكان يعاني من نفس العيب، فرماله متحركة أيضًا، علاوة على أنه ضيق جدًا. أما منطقة آفطوط الساحلي، وهو منخفض على طول سلسلة التلال الرملية، وكذلك بلدة لگصر وهي قرية المنشأ، فكانا مكانيين معرضيْن للفيضانات. بل أن جزء كبيرا من البلدة القديمة قد تم تدميره في ديسمبر 1950 بسبب فيضان نهر السنغال، رغم أنه يقع على بعد 200 كيلومتر إلى الجنوب من انواكشوط.
واستنادًا إلى الرسم الأولي الذي قام به الحاكم الإستعماري موراگ، فقد عكف العديد من مخططي المدن على بلورة مشروع تخطيط أنواكشوط. وسرعان ما تتابعت المخططات، وقد اشتركت مختلف الدوائر الفنية الحكومية في الجهود المبذولة، حتى أنه جرى التفكير -في وقت ما- في تنظيم مسابقة أفكار لتخطيط أنواكشوط، قبل أن يتم التخلي في النهاية عن الفكرة لأنها كانت تنطوي على خطر تأخير مراحل إقامة العاصمة ضمن الظروف الإستعجالية التي سبق أن تحدث عنها آنفا الجزء الثاني من هذه السلسلة.
في البداية، ظهر مخطط برنارد هيرش (1927-1988) في أبريل 1957 الذي كان مدير الأشغال العامة في موريتانيا. وقد صمم مخططًا ينسجم مع الموقع، لكن الرسم التخطيطي بقي أوليا للغاية، ولم يصل بعدُ إلى مستوى رسم يليق بمدينة. كان المخطط يُفصح عن طريق كبير يشق أنواكشوط من جهة الشرق نحو الغرب، يفصل المدينة إلى قسمين كبيرين. فمن جهة، كانت تبدو منطقة "المداين" وأسواقها ومسجدها، وفي الجهة الأخرى، كانت توجد العاصمة بما تمثله من رموز للسلطة، والحي الإداري بمبانيه العامة. وكان كل ذلك مستوحى من مخيلة الروح الاستعمارية للمدن القائمة على الفصل والتمييز بين سكانها.
وبعد شهر واحد فقط من ظهور مشروع هيرش، استدعى الحاكم العسكري كبير مهندسي الحكومة العامة لإفريقيا الغربية الفرنسية AOF في داكار، هنري سروتي-ماؤوري ((1899-1972، وكلفه باقتراح مشروع مخطط عمراني لأنواكشوط. وقد قام المهندس بتثبيت المحور الشرقي/ الغربي الذي يعبر المدينة بدون تغيير. واللافت للإنتباه هو أنه قد تم الإبقاء على ذلك المحور في جميع المخططات حتى المسودة النهائية، بغض النظر عن أصحابها. كما أصبح رسم المدينة معه، "أكثر دقة، مع استمرار الأخذ بعين الاعتبار التمايز بين المناطق، خاصة بين الجنوب الشعبي والأهلي والشمال الإستعماري والأبيض".
أما خلال صيف عام 1957، فقد قام لينفيل Lainville، وكان هو مهندس إدارة التخطيط الحضري والأشغال العامة في داكار، بدوره بتقديم مشروع إلى الحاكم الإستعماري؛ وكان هو المخطط الرابع لأنواكشوط. ولم يُدخل ذلك المخطط أي تغييرات كبيرة مقارنة بالمخططات السابقة. بل اقتصر على إضافة لماسات صغيرة ولكنها كانت أكثر دقة، حيث وفر امتدادات لـ "المداين" تجعلها قابلة للتوسع إلى الشمال. كما أن الفجوة بين شمال وجنوب العاصمة، أصبحت أقل وضوحًا في هذا المخطط. إضافة إلى أنه قام بتهذيب ملامح المدينة بأشكال معمارية مستوحاة من فن الأرابيسك، مثل الأقواس والقباب في بعض المباني، وهو ما منح المدينة انسجامًا أكثر وخفف من تجهمها.
أخيرًا، تم تعديل مخطط لينفيل بشكل طفيف من قبل مهندس معماري باريسي هو André Leconte أندريه لكونت ((1894-1966. وقد أبقى مخطط لكونت على تقسيم المدينة فعليًا إلى كيانين: في الجنوب الغربي، كانت المدينة الجديدة المسماة "العاصمة" التي تنقسم بدورها إلى جزأين؛ أما في الشمال الشرقي فتوجد البلدة القديمة التي احتفظت باسمها التاريخي "لگصر". وكان كلٌ من قطبي المدينة يبعد عن الآخر بحوالي كيلومترين، لكن ضمن مدينة واحدة، أعتُبر فيها "لگصر" تابعا يدور في فلك "العاصمة". ومع هذا الإجراء، حدث أول انقلاب في النظام الجيوسياسي المحلي في أنواكشوط.
بعد ذلك، تم إصدار النسخة النهائية من المخطط العمراني لأنواكشوط مع مقرر حضري بتاريخ 25 فبراير 1958. وتم اعتماده بتاريخ 11 يونيو 1958. وقد جرى رسم المخططات التنفيذية بالإضافة إلى عدد كبير من مخططات البناء الخاصة بمدينة أنواكشوط تحت إشراف أمانة التخطيط العمراني وبعثات الإسكان الإستعمارية (SMUH).
كان المخطط النهائي لأنواكشوط يتعلق بمدينة حديثة تخرج كالصدفة من بين رمال الشاطئ، مهيأة لكي يقطنها ثمانية آلاف نسمة، وقد جرى تخطيطها وتشييدها بناء على توقع أقصى هو أن يصل عدد سكانها إلى مائة ألف نسمة بحلول عام 1980.
كان المخطط العمراني الذي تم تبنيه بشكل نهائي في مارس 1959 يأخذ شكل الحرف اللاتيني "S" الذي يعتبر المحور الرئيسي للمدينة، والذي سيطلق عليه فيما بعد شارع عبد الناصر، في الوسط، حيث كان يشكل في الأصل مرجعية لتمييز الأحياء السكنية الشمالية والمركز الإداري والاقتصادي عن أحياء "المداين" إلى الجنوب. بالإضافة إلى ذلك، كان هناك شارعان آخران متقاطعان كالصليب يشكلان العمود الفقري للعاصمة الجديدة.
وهكذا، يتضح بجلاء أن المخططات الخمس التي تأسست العاصمة أنواكشوط على ضوئها، كانت منذ البداية تعاني من صعوبة بالغة في إيجاد تصور ملائم، يعبر عن ملامح عامة منسجمة للمدينة الجديدة. لكن، هل كان بإمكان تلك المخططات أن تتنبأ بالتحديات الكبرى الديموغرافية والبيئية التي ستواجهها العاصمة في المستقبل؟
----------------
نصوص تمت ترجمتها وإعادة صياغتها من طرف محمد السالك ولد إبراهيم، مختارة من عدة مصادر ببليوغرافية متخصصة في تاريخ أنواكشوط: أوديت دي بيگودو؛ جان روبرت بيت؛ إبراهيما أبو صال؛ عبد الودود ولد الشيخ؛ أرميل شوبلين؛ جيروم تشينال؛ إيساگا دياجانا؛ فنسنت كوفمان؛ زكريا ولد أحمد سالم؛ جوانا لوكاس؛ كاميل إيفرار؛ إيف بيدرازيني؛ وأوريلي ثينوت.