جدل الضاد العربية

الضاد العربية ضادان أو أكثر.. ضاد تاريخية، وضاد معاصرة، وللأخيرة صيغ لهجية وألوان تقترب من الظاء (والدال) وتبتعد منهـ(مـ)ـا. 

ولنبدأ بالمعاصرة، فهي في العربية الفصحى أيامنا هذه، أو في تلاوة القراء وإلقاء الشعراء والصحافة وخطابات السياسيين، مجرد دال مفخمة pharyngealized، أي دال جرى عليها ما جرى على التاء فأصبحت طاء، والذال فأصبحت ظاء، والسين فأصبحت صادا.. فهي مجرد نطق ثانوي secondary articulation  يصاحب النطق الأولي ويزامنه، فيلون الصوت الأساسي وينغمه، أي ما يطلق عليه في التجويد الإطباق.. وتلك ظاهرة ألسنية مطردة في لغات العالم.. وبهذا فالضاد هي النظير المجهور للطاء، والمفخم للدال. 

أما الضاد التاريخية، فهي التي أسالت المداد، وأثارت الجدل والجدال، وكسر بها فقهاء الصحراء ولغويوها رتابة أيامهم المحظرية، ودارت وتدور حولها مناوشات ونقاشات لا نهاية لها في التراث العربي وفي التقاليد الألسنية العربية المعاصرة. ومرد الجدل هو محاولة التوفيق بين الصفات التي أسبغها قدامى اللغويين (الخليل بن أحمد، سيبويه، ابن جني) وعلماء التجويد على هذا الصوت من جهة، والصوت المتداول والشائع المكتسب عفوية وسماعا كما تكتسب جميع الأصوات في كل اللغات من جهة أخرى. وإذ لا تسعف البحوث الميدانية في رصد أي صوت لهجي أو تمثل فصيح في أي قطر عربي قريب إلى حد ما من ذلك الصوت الذي وسمه سيبويه في "كتابـ"ـه بأنه يخرج "من بين أول حافة اللسان وما يليها من الأضراس"، يلجأ دارسو اللسانيات التاريخية إلى ما يلجؤون عادة؛ فيقارنون مع اللغات الأقرب نسبا وجغرافيا، ويبحثون عن شتات بقايا له فيما تفرق من كلمات عربية في لغات أخرى لم تعش نفس المسار التطوري الذي عرفه النظام الصوتي للغة العربية. 

وقد خمن من تناولوا مسألة الضاد من المستشرقين والألسنيين المعاصرين، منطلقين من السمات المتداولة لها في كتب التراث (حافة اللسان، الشجرية، الرخاوة، الاستطالة حتى الاتصال بمخرج اللام)، على أن هذا الصوت كان جانبيا احتكاكيا مجهورا voiced lateral fricative، أو احتكاكيا أضفيت عليه لمسة جانبية lateralized، أي صوتا ما يمزج الضاد الحالية واللام. ولا يعدم هؤلاء الباحثون ما يعضد هذا التوجه في الكلمات العربية التي تتضمن الضاد المعاصرة موطنةً في لغات مثل الملاي والتركية الإسبانية. وفي كلمة القاضي التي احتفظت بها الإسبانية alcalde ما يدعم فرضية الاحتكاكية الجانبية لذلك الصوت التاريخي الذي كان ذات يوم في اللغة العربية، قبل أن يختفي ويفسح المجال لصوت آخر. وفي التراث العربي نفسه ما يعضد هذا التصور، كما ورد على لسان أكثر من لغوي عن الْـطَـجع كلغة في اضطجع. 
ولعل موريتانيا، كما ورد على لسان ديفيد كوهين أبرز دارسي الحسانية، وعلى لسان كيس فيغستيخ محقق "رسالة في كيفية النطق بالضاد" لعلي بن سليمان المنصوري، هي آخر بلد ظُـن َّ أن  أهله (كانوا) ينطقون الضاد، إذ يرتلون القرآن، بالصيغة الأقرب لما استقر في الأذهان على أنه الضاد التاريخية العربية، أي صوتا مفخما جانبيا. 

أما قلب الضاد ظاء، بحثا عن تحقيق السمات أعلاه، فلعل الله يرزق أصحابه أجرا، وعساه أيضا ينير بعلمه قلوب القائلين بألا وجود لهذا الصوت، بصيغتيه التاريخية أو المعاصرة، في غير اللغة العربية.

ثلاثاء, 31/12/2024 - 10:18