على الرغم من اختلاط المشاهد وتدافع الاحداث في سوريا بصور متشابكة, إلا أنه قد بدأت تتضح ملامح سوريا ما بعد الاسد, رجل دمشقالقوي ابو محمد الجولاني أو قائد العمليات في هيئة تحرير الشام أحمد الشرع بدأ يكشف عن سياساته داخلياً واقليمياً ودولياً, فمثلاً فيما يخص علاقة سوريا بالكيان الصهيوني, يقول الرجل بكل وضوح "سوريا ليست معنية بالمواجهة مع اسرائيل" ويقول "سوريا لن تكون قاعدة لمهاجمة اسرائيل" ويقول "على المنظمات الفلسطينية مغادرة سوريا" كما يقول "لن يكون سلاح في سوريا غير سلاح الدولة"...
ولكن ما يثير الدهشة انه لم يقل اي حرف فيما يخص تدمير الكيان الصهيوني لكامل مقدرات الجيش السوري العسكرية الجوية والبرية والبحرية بحوالي عشرة آلاف غارة جوية اسفرت عن تدمير جميع المطارات والقواعد الجوية بما فيها من الطائرات الحربية والمروحية والتي قدرتها مصادر مطلعة باكثر من 250 طائرة منها مقاتلات من نوع ميج 29 الروسية المتطورة, بالاضافة الى تدمير المعكسرات البرية بما فيها من الدبابات والمقدرة بحوالي 2700 دبابة وكذلك تدمير القواعد البحرية وعشرات السفن والقطع البحرية وتدمير جميع منظومات الدفاع الجوي وكل مخازن الصواريخ والذخائر, اي ان سوريا اصبحت عارية تماماً ولا تملك اي سلاح من اي نوع وهذا يعني انه يمكن للكيان الصهيوني احتلال دمشق في اقل من نصف ساعة لو اراد ذلك...!!!, وبدلاً من التنديد بتلك الجريمة المروعة سارع الى طمأنة الكيان الصهيوني بالاعلان عن الغاء التجنيد الاجباري وتخفيض مدة الخدمة الالزامية.
والملفت ان الجولاني تعايش مع احتلال الجيش الصهيوني لكامل جبل الشيخ ولحوالي 500 كيلومتر مربع من الاراضي السورية بدون طلقة واحدة الى ان اصبح على بعد حوالي 20-25 كيلومتر من دمشق, ومع تصريح رئيس الوزراء الصهيوني نتنياهو بعد اجتماع لحكومته في جبل الشيخ, ان جبل حرمون كما يسموه الصهاينة "مهم جداً لامن مواطنيناوإن إسرائيل ستبقى في الجبل الإستراتيجي لحين التوصل لترتيب مختلف" وهذا التصريح يعني بوضوح انه لن ينسحب منه اطلاقاً,.
ورداً على هذا الواقع الجديد العسكري الذي فرضه الكيان الصهيوني في جنوب سوريا قال الجولاني في تصريح لتلفزيون سوريا الذي يبث من اسطنبول : "أن سوريا الجديدة ليست في صدد الدخول في صراع مع إسرائيل رغم التوغل الأخير لقواتها في الأراضي السورية"....!!!!!
تجدر الاشارة الى ان الكيان المحتل استولى على جبل الشيخ كاملاً بالتزامن مع سيطرة الجولاني على السلطة في سوريا في الثامن من شهر ديسمبر الجاري وهذا الجبل يكتسي اهمية استراتيجية كبيرة جداً, فهو يعتبر قاعدة مراقبة في غاية الاهمية تشرف على سوريا ولبنان والاردن وفلسطين نظراً لارتفاعه الشاهق والذي يزيد عن 2800 متر عن سطح البحر.
هذا وكذلك لجبل الشيخ أهمية اقتصادية كبيرة, فمثلاً في القطاع الزراعي, يعتبر جبل الشيخ مصدراً رئيسياً من مصادر المياه, فهو يوفر حوالي مليار ونصف المليار متر مكعب من المياه وينبع منه كلا من نهر الوزاني ونهر جرجرة, لذا فهو مهم جدا لاستصلاح التربة وري المزروعات وتربية الحيوانات وكذلك على صعيد القطاع الصناعي فإن مياه جبل الشيخ تستخدم في تبريد الآلات وخطوط الانتاج في المصانع,اما على صعيد القطاع السياحي فان جبل الشيخ يعتبر وجهة سياحية مهمة لاعتدال مناخه صيفاً وتساقط الثلوج عليه شتاءأ مما يجعله جاذباًللسياح وخصوصاً للمتزلجين على الجليد على قممه ومنحدراته وغير ذلك.
اضف الى ما سبق, ان اليهود وخصوصاً المتطرفين دينياً منهم يعتبرون جبل الشيخ (جبل حرمون كما يسموه) من الاماكن المقدسة وفقاً للشريعة اليهودية ويزعم بعضهم انه جاء ذكر جبل حرمون اكثر من 70 مرة في نصوصهم الدينية.
اضف الى ذلك قيام الجولاني الاربعاء 18 ديسمبر الجاري بإستقبال وفد امريكي رفيع المستوى برئاسة باربرا ليف مساعدة وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأوسط والتي صرحت للصحفيين بعد اللقاء"إن الزعيم السوري الجديد بدا في صورة رجل "عملي وإن المناقشات معه كانت جيدة ومثمرة للغاية ومفصلة", وتابعت ليف قائلة "انها أبلغته أن واشنطن ألغت المكافأة المالية المخصصة لمن يدلي بمعلومات تساعد في اعتقاله"، وأضافت "بناء على معطيات اليوم، فإن إيران حليفة المخلوع بشار الاسد لن يكون لها أي دور على الإطلاق في سوريا، ولا ينبغي أن يكون لها أي دور".
كل هذه الاشارات تعني بوضوح, ليس إخراج سوريا من معادلة الصراع العربي الصهيوني فحسب, بل ايضاً انتقالها الى مربع الدول التي بدأت في الدوران في فلك الولايات المتحدة والكيان الصهيوني.
ومن يسمع هذه تصريحات الجولاني المشار اليها يظن أن الجبهة السورية مع الكيان الصهيوني متفجرة ولم تهدأ منذ نشاة الكيان وان الكيان لا يغمض له حفن من شدة الاهوال على الجبهة السورية....!!!!!, لا حول ولا قوة الا بالله...!!!!
يبدو ان الجولاني نسي أو تناسى ان الحدود السورية مع الكيان الصهيوني لم تشهد اطلاق رصاصة واحدة منذ اكثر من خمسين عاماً والكيان يعتبرها حدوده مع سوريا هي الاكثر امناً على الاطلاق, مما يعيد الى الاذهان تصريحاً خطيراً ادلى بها الدكتور محمود جامع المقرب من الرئيس المصري الاسبق انور السادات ويقسم فيه بالله قسماً مغلظاً بأن السادات شخصياً أخبره بأن الرئيس السوري الاب حافظ الاسد قد قبض مائة مليون دولار مقابل تسليم هضبة الجولان عام 1967, وهذا ما يفسّر أسباب ضم الكيان الصهيوني لهضبة الجولان لما تدّعيه أنها من ضمن أرضها الموعودة، وفرض جنسيته على سكانها العرب، ويرفض بالمطلق أي تفاوض قد يلمح الى الانسحاب منها.
وفي هذا السياق, تشير العديد من المصادر الداخلية والخارجية الى ان الرئيس السوري الراحل حافظ الاسد كان قد أمر قواته في يونيو 1967بالانسحاب من الهضبة الاستراتيجية بدون اطلاق رصاصة واحدة وقد اعلن الاسد الاب شخصياً الذي كان حينها وزيراً للدفاع وفقاً لاتفاق عن سقوط مدينة القنيطرة (اهم مدن الجولان) في وقت محدد تصل فيه القوات الصهيونية الى المدينة ولكن ما حصل ان الاسد قام بالاعلان في الوقت المتفق عليه, إلا انه صدف وتأخرت القوات الصهيونية في الوصول في الوقت المحدد فجاء اعلان الاسد عن سقوط الجولان قبل وصول الجيش الصهيوني اليها بحوالي 3 ساعات وفقاً لتقرير نشرت حينها مجلة تايم الامريكية.
وفي نفس السياق, يروي وزير الصحة السوري آنذاك عبد الرحمن الأكتع الذي كان في جولة ميدانية في مدينة القنيطرة يوم العاشر من حزيران عندما أعلن حافظ الاسد وزير الدفاع سقوط القنيطرة، قائلاً: " "سمعت نبأ سقوط القنيطرة يذاع من الراديو، لم اصدق اذني لأنني كنت وقت صدور البيان موجود بنفسي في القنيطرة ولم أر اي وجود لجيش العدو، فسارعت بالاتصال هاتفياً بحافظ الأسد وقلت له: المعلومات التي وصلتكم غير صحيحة، انا الان موجود في القنيطرة, وليس هناك وجود لجيش العدو في المدينة، فشتمني بأقذع الألفاظ ثم قال لي: لا تتدخل في عمل غيرك يا (شتيمة من مستوى وضيع)، فعرفت أنّ في الأمر شيئا"...!!.
اخر الكلام:
الهدوء التام على الحدود السورية مع فلسطين المحتلة ربما هو الامر الوحيد الذي لم تختلف عليه العهود المختلفة وتتوارثه وتحرص على الحفاظ عليه كما كان لاكثر من 50 عاماً منذ عهد الاسد الاب ثم ابنه وصولاً الى عهد الجولاني رغم الاختلاف في كل شئ اخر تقريباً كالمبادئ والقيم والنهج والفكر والعقيدة...!!!!, ورغم (وهو الأهم) احتلال الكيان الصهيوني لحوالي 500 كيلومتر مربع من أهم واخصب الاراضي في جنوب سوريا بما في ذلك هضبة الجولان وجبل الشيخ وغيرها.
د. سمير الددا