الجدل حول المرجعية، غموض إيديولوجي أو بديل مؤسساتي؟

 

    يثير الجدل الدائر بشأن "المرجعية" على مستوي حزب الإتحاد من أجل الجمهورية الحاكم بعض التساؤلات حول الممارسة السياسية والترسخ الأيديولوجي في موريتانيا.

إن مشهد أحزاب الدولة وهي تنهار واحدا تلو الآخر وتتحول إلى أنقاض بعد كل انقلاب يربك الفهم.

فإن كان حل حزب الشعب (PPM) منطقيا في إطار تغيير جذري لنظام الحزب الواحد إلي حكم عسكري استثناءي بعد انقلاب ١٠ يوليو 1978 فماذا عن وراثة التشتت بعد ذلك.

أين الحزب الجمهوري الديموقراطي الاجتماعي (PRDS) بعد أغسطس 2005 و الحزب الجمهوري من أجل الديموقراطية و التجديد (PRDR) بعد انشاء حزب عادل (PNDD-ADIL) سنة 2007؟

وماذا عن التجاذبات داخل الحزب الحاكم بعد الانتخابات الرئاسية الاخيرة؟

تميزت النسخة الجديدة للحزب الحاكم بالتعديل الجزئي والاحتفاظ بالكيان الحزبي بدل ذوبانه وبظرفية انتقال سلمي وحضاري للسلطة أمام العالم في اغسطس 2019.

وشكل موضوع عودة الرئيس السابق لممارسة السياسة وإشكالية التوجه العام للأغلبية الحاكمة محور هذا الخلاف.

بدأ الموضوع بطرح سؤال بسيط في ظاهره من طرف عضوٍ مؤثر في المكتب السياسي للحزب، النائب السابق الخليل ولد الطيب، خلال اجتماعات تحضيرية للمؤتمر الثاني للحزب، حول توضيح "المرجعية" متسائلا هل هو الرئيس السابق أو الحالي؟

مسألة بوصلة واتجاه فقط!

كانت تداعيات السؤال كفيلة بانقسام الحزب إلى تيارين متصارعين وتسارعت حركة الكراسي والتنسيق.

تفاقم الموضوع بعد عودة ولد عبد العزيز من تركيا واجتماعه بلجنة تسيير الحز ب والتي وصفها في مقابلته مع الصحافة الوطنية بمجرد زيارة ودية "للاطمئنان على حالة الحزب" سببت كل ذلك اللغط!

اليس هو "الرئيس المؤسس، الحامل للبطاقة رقم ١" كما يروق له أن يذكر بذلك؟، وإثارة موضوع "المرجعية " لم تكن حسب قوله سوي "فكرة شيطانية" أو "لفظة حق أريد بها باطل"!

كان يشاطره في هذا الرأي بعض اعضاء لجنة التسيير المؤقتة وعددهم يتناقص...

في الاتجاه الآخر كان الموقف مخالفا ويدعو لضرورة بداية مرحلة جديدة والالتفاف حول القيادة الجديدة وبرنامج الرئيس محمد الشيخ الغزواني.

ففي خرجة إعلامية على إحدى القنوات المحلية أشار النائب و الوزير حاليا لمرابط ولد بناهي عن عدم فهمه لكون رئيس سابق لكل الموريتانيين يعود لترأس جزء منهم.

وأثار آخرون أمثلة الرؤساء السابقين واعتزالهم المجال السياسي بعد مغادرتهم نهائيا تجنبا للتشويش على المشهد الوطني.

ان هذا التجاذب يذكيه التقييم المتباعد لنتائج الحكم السابق.

ففي حين يتحدث البعض عن "عشرية ذهبية" شهدت إنجازات كبيرة غيرت ملامح الحياة في البلد (مطارات، طرق كثيرة، مستشفيات، حالة مدنية مضبوطة، جامعة عصرية، تجهيز الجيش، طباعة المصحف الموريتاني، مكافحة الفساد...)، يري آخرون انها كانت "عشرية ضائعة " (الوزير موسي فال) تمخضت عن كوارث اقتصادية كبيرة وعمليات نهب وتبديد للثروات الوطنية أدت الي "جبل جليدي من العار" حسب تعبير الأستاذ هيبتن ولد سيد هيبه.

وفي برنامج على قناة الوطنية حول تقييم السنة الاولي من حكم الرئيس الحالي، أشار الوزير السابق و القيادي في حزب الاتحاد من أجل الجمهورية محمد محمود ولد جعفر عن غياب مصطلح «المرجعية" في النصوص المنظمة للحزب و كون الكثيرين من الاطر المناضلين داخله يجمعهم الايمان بالدولة و الرغبة في خدمتها.

وأكد تشبثه ببرنامج "تعهداتي" كإطار للعمل لمواكبة عمل الحكومة ومساندة النهج الجديد.

لا يزال أنصار الرئيس السابق يصرون علي أسبقيته في حزب أسسه و سيره سنوات عديدة مستعينا به في تغيير بعض رموز الدولة (النشيد و العلم الوطنيين) و قاده لنيل أغلبية في البرلمان و المجالس البلدية و حملة انتساب مليونية متجاوزًا التعديلات الدستورية بنجاح .

إن الخلاف حول ملكية الحزب، ماديًا ومعنويا، يطرح تساؤلات أعمق ويثير شجونًا شتي في الضمائر والأذهان المتصارعة كما تعكس ذلك النزالات بين قياداته السابقة كالوزيرين الدكتور اسلك ولد احمد ازيد بيه والأستاذ سيد محمد ولد محم في تدوينات تطرقت لمواضيع الأخلاق والولاء والخيانة والتضحية والتصرف الحرباوي وازدواجية الموازين والشعور بالخطيئة......

تفاقمت الأزمة مع نتائج تقرير اللجنة البرلمانية وإجهاض مشروع انخراط مساندي الرئيس السابق في الحزب الوحدوي الديمقراطي الاشتراكي بتقليص أنشطته تسعين يوما من طرف وزارة الداخلية ونزع اللافتات من فوق مقره الجديد في خطوة رآها أنصاره الجدد تضييقا على حرية نشاطهم السياسي.

وفي مقابلته الأخيرة مع قناة "فرانس 24" لا يخفي استياء "الرجل القوي السابق" من مآلات الأمور اتجاهه واحساسه بالاستهداف شخصيا وحسرته على معاملة أغلبية حزبه بما فيها من كانوا يناشدونه بمأمورية ثالثة ويتحسرون "دموعا" على رفضه لذلك!

هل كانت عودته للحلبة السياسية كارثة غير متوقعة في "حياة ما بعد القصر"؟ وهل غيابه عن حفلة تخليد ذكري عيد الاستقلال أثار أكثر من توجس؟

كانت نتائج المؤتمر الثاني للحزب في نهاية دجمبر 2019 وانتخاب رئيس جديد وقيادة موالية للرئيس الحالي تعبيرا واضحا لطي صفحة النظام السابق وتكريس ريادة ما سمي ب"تيار المرجعية"".

يبقي موضوع الولاء في الأحزاب الحاكمة قضية يكتنفها بعض الغموض هل هو لشخص، يزول بزواله، أو لحكم سياسي معين او لجماعة نفوذ محددة أو برنامج انتخابي أو أغلبية حاكمة تدير شؤون البلاد حسب رؤية بعضها لمصالح الوطن أو مصالحها الظرفية في سياق لا يستبعد أهوال إعادة الماضي وكابوس التشتت أمام ضغط الأولويات.

وهل الترحال طبيعة ثانية للكائن الموريتاني ورثها من ديدن المحيط وهاجس البقاء؟

يهدف هذا المقال للإشارة لأهمية وجود رؤية واضحة للعقيدة السياسية في أكبر حزب في البلاد ومحاولة فهم ما يمكن أن يجمع الالاف من المنخرطين فيما يسميه البعض ب «حزب الدولة"".

أضف إلى ذلك تضاءل الهوة بين جزء كبير من المعارضة والأغلبية وتقارب المطالب والأجندات المعلنة رغم تعدد المسارب واختلاف رصيد النضالات.

إن غياب ايدولوجية بمفهومها التقليدي وصعوبة ابتكار نسخة محلية أصيلة جعل الكثيرين يتوجهون إلى نظرية واقعية ترتكز على الإجماع للمحافظة على استمرارية الدولة ودعم برنامج الحكومة وتسيير الحد الممكن من التوازنات الداخلية.

ومن اجل تلميع هذه المرتكزات تضاف أهداف سامية مثل ترسيخ الديموقراطية والعدالة الاجتماعية ومكافحة الفساد...

من ناحية أخري يعتبر الواقع المحلي المتميز بعودة قوية للهويات الضيقة (القبيلة، الشريحة، الجهة، العنصر الاثني...) وظهور تنظيمات ذات طابع مافيوي والاثار الاقتصادية المدمرة لجائحة كوفيد-19 ووضع إقليمي غير مستقر يبرر أولوية أجندة البقاء التي لابد لها من اسطرلاب للملاحة في سياق عالمي مضطرب الأمواج يثير إشكال درجة صمود الكيانات في العالم بأسره.

كثيرون يتحدثون عن أهمية إعادة الاعتبار لمؤسسات الدولة وتفعيلها وتكريس استقلاليتها في الواقع، بكل موضوعية ودون انتقائية وتوجيه، فهل ذلك كفيل وحده بفك طلاسم الواقع المعقد واستشراف رؤية للمستقبل؟

إن الكثير من الإشكاليات الموروثة ما قبل الدولة الوطنية ونتاج عقود من الأحكام النافية بعضها بعضا ولد شعورًا جماعيًا بعدم استقرار الشأن المحلي لحد العبثية المعاشة وضرورة إعادة صياغة الإطار الفكري الوطني وتوضيح معالم الذاكرة الجمعية القديمة والحديثة.

وفي هذا السياق الذي ينادي أغلب فاعليه السياسيين بالشفافية في الشأن العام فإن نسبة من الصراحة في مواجهة تحديات المستقبل وتضميد جراح الماضي المتعددة تستوجب نوعًا من محاورة الذات واستنطاق المسكوت عنه وكذلك مراجعة الأنماط الفكرية السائدة تنظيرًا وسلوكًا.

قد يكون أيضًا تزاحم التيارات والمرجعيات المتنافسة داخل مثل هذه الأحزاب الجامعة ولد نوعًا من "الاختناق الفكري " مما جعل نظريتها العامة يكتسيها طابع التعميم والولاء لها نسبي وموسمي ومقرون ببعض المصالح أحيانا.

فهل النهج المؤسساتي القائم علي فصل السلطات و تقوية المؤسسات وترسيخ قيم المواطنة هو البديل في المرحلة الحالية؟

أهي ساعة حساب أخري أم أن وقت التقييم العام لشؤون الجمهورية قد حان؟

إن الوقوف على الأطلال السياسية للماضي القريب ومعاينة تحديات المستقبل الحاضر يوحي ان الوقت قد حان للتفكير في النظرية الموريتانية للعقد الوطني المستمدة من أصالة التراث الايجابي ومقتضيات القرية العالمية.

 

—————

سيد محمد ولد عبد الوهاب

 

ثلاثاء, 06/10/2020 - 10:01