سوريا... اللعب بين الكبار

لم يكن مفاجئاً سقوط نظام عائلة الاسد التي جثم على صدور السوريين منذ ان استولى حافظ الاسد على السلطة على اثر انقلابين عسكريين الاول في فبراير عام 1966 على الرئيس امين الحافظ وشارك فيه الاسد تحت لواء رجل حزب البعث القوي حينها صلاح جديد الذي أمر حينها بترقية الاسد من رتبة مقدم الى رتبة لواء مباشرة وتعيينه وزيراً للدفاع, والثاني نفذه الأسد في نوفمبر عام 1970 ضد الرئيس نور الدين الاتاسي وضد عرابه صلاح جديد زعيم حزب البعث الذي كان مسيطراً على زمام كافة الامور في سوريا حينها, لاختلافه معه على تداعيات هزيمة 1967 والذي كان جديد يحمل الاسد المسؤولية عن هذه الكارثة كونه وزيراً للدفاع, بل وصل الامر انه كان يتهمه بالتواطؤ, وقام الاسد بالقاء القبض على الاتاسي وجديد وزج بهما في السجن واحكم سيطرته على مقاليد السلطة في دمشق الى توفي عام 2000, ليخلفه ابنه بشار الذي هرب الى خارج سوريا على اثر سقوط نظامه في الثامن من ديسمبر عام 2024, لتبدأ حقبة سورية جديدة بدون عائلة الاسد.

فقد سبق سقوط نظام الاسد الكثير من الاشارات التي كانت تشي بذلك في السنوات القليلة الماضية, من أبرز تلك الاشارات تبلور أجواء دولية وظروف اقليمية اختفت معها الارادة والحاجة الى استمرار تقديم الحماية والدعم للنظام السوري مما افقده أهم مقومات صموده وعوامل قوته.

لعله من ابرز تلك الاجواء الدولية المتقلبة ما يطبخ لاوكرانيا في الايام الاخيرة في أروقة صنع القرار الخاصة بالرئيس الامريكي القديم الجديد دونالد ترامب بعد فوزه في الانتخابات الامريكية الشهر الماضي والحديث عن توجه امريكي لحث كييف على قبول التفاوض مع موسكو على قاعدة التعايش مع الأمر الواقع الجديد الذي فرضته روسيا على حدودها مع اوكرانيا بما في ذلك سيطرة الاولى على 20-25% من اراضي الاخيرة, بالاضافة الى غض النظر عن طلب انضمام كييف الى حلف الناتو في المديين القصير والمتوسط على الاقل وفقاً لمصادر مقربة من الرئيس الامريكي المنتخب...... 

أما اقليمياً وداخلياً, الحقيقة المؤلمة ان حكام سوريا من العسكر جاءوا بانقلابات عسكرية ولم يحالوا ان يستمدوا شرعيتهم من الشعب السوري المفروض انه مصدر السلطات, وهذه اكبر نقاط ضعف انظمتهم, اذ ان الشعب اكبر حامي للنظام ورئيسه في حال كان هو الذي جاء به الى السلطة, ومن المؤكد ان الشعب كان سيلتف حول النظام ورئيسه لو كانت تربطه علاقة طبيعية.

لسوء حظ سوريا انها خضعت منذ استقلالها عن الاستعمار الفرنسي عام 1946 لانظمة عسكرية قمعية جاءت جميعها الى سدة السلطة بعد حوالي 10 انقلابات عسكرية, بدأت عام 1949 وهو العام الذي شهد اول ثلاث انقلابات متتالية, وصولاً الى انقلاب حافظ الاسد الاشهر والاطول عام 1970, اي ان كل حكام سوريا منذ الاستقلال تقريباً جاءوا الى السلطة على ظهور الدبابات وفرضوا وجودهم بالقوة وابرزهم واكثرهم قسوة كان حافظ الاسد الذي عزل نفسه عن الشعب ولم يلتفت اليه بل ناصبه العداء وارسى دعائم نظامه مستعيناً بأقسى ادوات الموت والقمع والسجون والتهجير, ومن سار ابنه بشار على دربه, بل حتى انه تفوق عليه في مناصبة الشعب العداء واستعانعلى الشعب بقوى خارجية لحماية نظامه, وهذه القوى كان لها حساباتها ومصالحها والتي اقتضت مؤخراً عدم الاستمرار في تقديم الحماية لنظام الاسد. 

غياب شخصيات وازنة كانت تدعم النظام السوري وتقدم له الحماية مثل الراحلين حسن نصر الله امين عام حزب الله وقاسم سليماني قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الايراني وغيرهما, ولكن العامل الاقليمي الاكثر تأثيراً, هو الضربات المدمرة التي تلقتها اقوى اذرع محور المقاومة (الذي يشكل النظام السوري عموده الفقري) في كل من قطاع غزة وجنوب لبنان ومقرات وحتى كوادر ايرانية داخل سوريا, وجنوح ايران عراب هذا المحور للتفاوض مع الولايات المتحدة حول ملفها النووي وبما انه في السياسة لا يوجد تحالفات دائمة ولا عداوات دائمة وإنما مصالح دائمة, لا أستغرب ان يكون تم تقديم النظام السوري قرباناً لطموحات طهران النووية, مما يعني عملياً انهيار محور المقاومة, وهذا ما قد يفسر الانهيار او الاندحار السلس والسريع لجيش النظام السوري بدون مواجهةٍ تذكر.

هذا في حين ان هناك مصادر اعلامية وسياسية تتحدث عن مخطط واتفاق بين الولايات المتحدة وروسيا نفذه الرئيس لتركي رجب اردوغان بواسطة فصائل سورية معارضة تدعمها واشنطن وانقرة يهدف الى القضاء على كلا من الوجود الايراني ومصادر تسليح حزب الله في سوريا لتقويض أهم أعمدة محور المقاومة في سوريا بعد ان تم اضعافها في لبنان وقطاع غزة مما سيؤدي حتماً الى حصر النفوذ الايراني في المنطقة واضعاف الموقف الايراني الجيوستراتيجي عموماً مما سيسهل التوصل مع ايران الى اتفاق حول ملفها النووي وفقاً لشروط الولايات المتحدة والكيان الصهيوني.

اضف الى ذلك, إفتقار الحاشية المحيطة بالأسد الى المهنية اوالوطنية او كليهما كان له دوراً بارزاً في تشجيعه على المكابرة والعناد في علاقاته مع جيرانه وخصوصاً تركيا الدولة الاهم إقليمياً وتحديداً فيما يتعلق بالمعارضةالمسلحة, فجميع مستشاري الاسد تقريباً من أصحاب الولاء وليس من أهلالخبرة ومن الاقارب والمعارف والاصدقاء والمقربين وجل هؤلاء إن لم يكن كلهم من اصحاب المصالح والنفوذ ورجال أعمال بدون خبرات سياسية ومن الطبيعي ستكون ألوياتهم مراعاة مصالحهم ونفوذهم في المقام الاول ومن ثم سوريا تأتي في مقام ادنى, وهنا تكمن نقاط ضعف قاتلة في نظام الأسد.

وفي هذا السياق, كانت هناك شخصيات سورية سياسة وازنة لها تجاربوخبرات كبيرة خسرها النظام السوري بسببب إنشقاقها أو إقصائها على اثر خلافات مع النظام, وكان من الممكن ان تحدث هذه الشخصيات فرقاً في اداء وسلوك النظام السوري, على سبيل المثال رفيق درب الاسد الاب المخضرمالداهية عبد الحليم خدام الذي أعلن انشقاقه عن النظام  في ديسمبر 2005 بعد أن تدهورت علاقته ببشار الأسد، بسبب انتقاده السياسة الخارجية السورية البعثية لاسيما في لبنان واغتيال رئيس وزراء لبنان السابق رفيق الحريري, ودعوته علناً إلى العمل على التغيير السلمي في سوريا بإسقاط النظام البعثي وبناء دولة ديمقراطية حديثة تقوم على أساس المواطنة, وبغض النظر عن الاتفاق مع خدام او الاختلاف معه كونه كان احد اهم اركان نظام الاسد الاب لعدة قرون, في تقديري انه لو استمع الاسد لنصائح خدام لما وصل به الحال الى هذا المآل, وهناك العسكري المخضرم مصطفى طلاس الذي أعلن انشقاقه هو الاخر في يوليو 2012 وهناك السياسي اللامع فاروق الشرع الذي انشق هو الاخر بعد استبعاده من القيادة القطرية لحزب البعث في صيف عام 2013, وكذلك الدبلوماسي الهادئ والمثابر وليد المعلم الذي غيبته الوفاة عام 2020, وغيرهم وغيرهم.

وتجدر الاشارة في هذا السياق ان نفوذ نظام بشار الاسد قد بدأ في السنوات القليلة الماضية في التراجع بصورة ملفتة لصالح اطراف خارجية اصبحتتستأثر بمساحة واسعة من النفوذ داخل سوريا لعل ابرزها ايران وروسيا وحزب الله والولايات المتحدة التي كانت تسطير على مصادر الطاقة وايضاً هناك تنظيمات تابعة لبعض الدول في الاقليم, اضف الى ذلك الوهن الواضح الذي دب في اجهزة النظام وخصوصاً في قواته المسلحة بما سمح لكثير من القوى الخارجية بان تسرح وتمرح في الاراضي والاجواء والمياه الاقليمية السورية وابرزها الكيان الصهيوني, بما ادى الى ارتخاء  قبضة النظام على مقاليد السلطة في معظم المناطق السورية, وتدرج الامر الى ان وصل الى هذه النتيجة المنطقية.

اخر الكلام:

أكبر المستفيدين من ما حصل في سوريا هم الغالبية العظمى من ابناء الشعب السوري, الذي عانى الامرين على يد النظام الآفل, اذ من المتوقع عودة حوالي 12 مليون لاجئ سوري الى بلادهم هربوا من بطش نظام عائلة الاسد او شردهم النظام المعزول على مدى العقود الخمسة الماضية, وفي السياق ذاته ما زال الشعب السوري يتذكر المجازر المتعددة التي ارتكبها نظام الاسد, ولعل من اشهرها مجرزة حماة في ثمانينات القرن الماضي والتي بلغ عدد ضحاياها من السوريين الابرياء حوالي 40 الف ضحية وفقاً لبيانات اللجنة السورية لحقوق الانسان, واستمرت قافلة الضحايا في عهد الاسد الابن مستعيناً بالروس وقوات حزب الله والحشد الشعبي وغيرها وخصوصاً في العقد الاخيروصولاً الى المجازر الرهيبة التي اقترفها النظام الساقط في العقد الاخير ويقدر عدد ضحاياها بأكثر من 500 الف قتيل و200 الف سجين وفقاً لبيانات المرصد السوري لحقوق الانسان, ناهيك عن مئات الالاف من الرجال والنساء وحتى الاطفال التي تكتظ بهم سجون الاسد سيئة السمعة وتم تحريرهم عقب سقوط النظام صباح الاحد الماضي, منهم من كانت تفصلهسويعات قليلة عن تنفيذ حكم الاعدام فيهم ومنهم امضى في السجن حوالي 5 عقود من عمره ومن هم فقد ذاكرته ومنهم من لم يعد يذكر اسمه ومنهم من لا يذكر لما دخل السجن ومنهم طيار عسكري سجن لانه رفض قصف المدنيين السوريين ابان احداث حماة قبل اكثر من 40 عاماً, وتتوالى حكايات المفجعة وكأننا نسمع كوابيس واحلام مرعبة.

ومن اكبر المستفيدين, الكيان الصهيوني الذي استغل الفوضى التي عمت الشارع السوري نتيجة سقوط نظام الاسد وكشف عن وجهه البشع واقدم بكل وقاحة على تدمير كل مقومات الجيش السوري الجوية والبحرية والبرية بحجة التخوف من وقوعها في يد قوات المعارضة بغارات بطائراته الامريكية الاحدث في العالم متفاخراً بأنها الاكبر في تاريخه والمثير للدهشة تدمير الصهاينة لمبنى دائرة الجوازات والجنسية بعد استيلاء مجهولين اثناء فرض حظر التجول مساء التاسع من ديسمبر على محتويات المبنى من جوازات جديدة وماكينات طباعة الجوازات كما افادت تقارير واردة من دمشق...!!!.

كما تجلت طبيعة الكيان الصهيوني التوسعية الاستعمارية التي جبل عليها في نهب وسرقة اراضي سورية جديدة, فاستولت قواته المجرمة ظهر الاحد 8 ديسمبر على الطرف السوري من جبل الشيخ الاستراتيجي وكذلك قم بنهب كامل المناطق العازلة بين سوريا وفلسطين المحتلة والتي تتمركز فيها قوات الامم المتحدة وفقاً لاتفاقات الهدنة بينه وبين سوريا عام 1974, بالاضافة الى قيامه بسرقة اراضي سورية جديدة الى ان وصلت عصاباته الارهابية الى ما يقارب 20 كيلومتر عن دمشق وفقاً لمصادر صهيونية وبهذا يكون الكيان الصهيوني يحتل عسكرياً كل فلسطين, وثلث لبنان وربع سوريا وجزء من مصر وجزء من الاردن ويكون عملياً قد قفز خطوة كبيرة في طريق هدفه الذي ينادي به أهم اقطاب الحكومة الصهيونية الاشد تطرفاً في التاريخ "اسرائيل الكبرى من النيل الى الفرات", وهؤلاء اصبحت اعينهم الان على ما بعد هذه البلدان....فهل من متعظ....؟؟؟؟

وهذا سياسة صهيونية وضيعة, الاستفراد بكل جبهة على انفراد ثم الانتقال لجبهة اخرى بعد الانتهاء من الاولى وهكذا, ركزوا على غزة في بداية الحرب, وبعد ان دمروها بالكامل تقريباً تحولوا الى لبنان فدمروا مناطق كاملة هناك الى ان توصلوا الى اتفاق لوقف النار وبعد يوم واحد فقط من انتهاءهم من لبنان اجتاحوا سوريا ودمروا كل اسلحة الجيش السوري بما في كل سلاح الجو من طائرات مقاتلة وطائرات عمودية ومنظومات الدفاع الجوية وغيرها وكل سلاح البحرية من سفن وبواخر وقوارب وغيرها ومعظم القواعد العسكريةومصانع الاسلحة والصواريخ وغيرها.

يبدو ان سوريا ستصبح في مصاف "الدول الفاشلة" والخوف من تكرار ما حصل في الدول في دول مرت بتجربة مماثلة (تونس, ليبيا, اليمن, العراق, الصومال) لا سمح الله, هذا بعد ان كانت سوريا في عهد الاسد الاب (رغم كل ما عليه) دولة وزانة لها نفوذ كبير في الشرق الاوسط والعالم العربي وكان لها تأثير ملموس على القرار العربي.

المقلق, اننا لم نسمع رد فعل من هم في سدة الحكم الان في دمشق على جرائم الكيان الصهيوني الجديدة بحق سوريا, مما يثير الكثير من التساؤلات...اخشى ما اخشاه ان يكون ذلك جزءاً من مخطط ينفذ للمنطقة بأسرها من وراء ظهور اهلها لا سمح الله....!!!!! وقد نعود لهذا الامر لاحقاً بانتظار انكشاف مزيداً من المعلومات.

ومن اكبر المستفيدين أيضاً الولايات المتحدة ومن عدة أوجه, فقد عززت قبضتهاعلى حقول النفط والغاز السورية والتي تقدر قيمتها بمئات مليارات الدولارات والتي تقوم بسرقتها منذ عقد من الزمن تقريباً.

اضف الى ذلك فقد عززت مكانة ربيبتها واهم حلفائها في المنطقة الكيان الصهوني بعد ان اهتزت بشدة في السابع من اكتوبر العام الماضي وذلك بإضعاف أهم خصومه (سوريا, حزب الله, حماس, الجهاد) وهذا ايضاً سيكون له تداعيات كبيرة على نفوذ ايران عدو الكيان الصهيوني اللدود والتي كانت تستمد نسبة عالية من نفوذها في المنطقة من تبعية هذه القوى المشار لها, مما يعني زيادة نفوذ الكيان الصهيوني والذي هو قاعدة عسكرية امريكية متقدمة في المنطقة, اي زيادة النفوذ الامريكي. 

كما يعني ذلك خسارة روسيا لحليفها الاهم في المنطقة (نظام الاسد), وقطعاً سيكون ذلك في صالح الولايات المتحدة وتعزيزاً لقبضتها على المنطقة 

ومن المستفيدين ايضاً تركيا, فقد كشف كبار السمؤولين الاتراك عن اطماعهم في الاراضي التركية, بعضهم رأى ان ادلب يجب ان تكون تركية, وذهب البعض الاخر الى ان حلب هي الاخرى اراضي تركية....!!!!

اذا وقع الجمل كثرت السكاكين...!!!!

لا حول ولا قوة بالله.

 

د. سمير الددا
[email protected]

ثلاثاء, 10/12/2024 - 15:37