كنت غارقا، قبل نومي، في قراءة كتاب يتحدث عن علم الاقتصاد الاجتماعي الذي يشرح كيف تُصاغ الطبقية في مطابخ الجشع. وما إن أغمضت عيني حتى وجدت نفسي في عالم عجيب، عالم ثلاثي الأبعاد، لا ينتمي إلى قوانين الفيزياء ولكنه ينتمي تمامًا إلى الواقع الموريتاني.
يظهر العالم العلوي كطبقة تتربع على عرش نواكشوط كما يتربع القمر على السماء، ولكن دون لمعان. هنا تجد ملاك الأحزاب و رجال الأعمال و الشيوخ الجليلين ممن يتقنون الدعاء لأصحاب النفوذ، والحقوقيين الذين يطالبون بحقوق الجميع إلا حقوق الشعب. هؤلاء يسكنون في فيلات فاخرة، يتنقلون بين الوزارات والسيارات الفارهة، ويجلسون على مقاعد لا تعرف التزحزح. كل شيء في هذا العالم العلوي يدور فوق القانون من دون تغيير أو تحريف.
في العالم السفلي، ترى الإضاءة الخافتة القادمة من مكاتب الإداريين. إنهم نوع فريد من البشر يمتلك القدرة على جعل أوراقك تتحرك بسرعة فائقة، ولكن ليس قبل أن يتحرك جيبك. هؤلاء يتحدثون بلغة ملائكية تشعرك بأنك أمام عمر بن الخطاب، ولكن ما إن تُنهي المعاملة، حتى تكتشف أنك كنت أمام أبي لهب. إن هذا العالم ليس فاسدًا تمامًا، فهو يحتوي أيضًا على أولئك الذين لم تتوفر لهم فرصة السرقة بعد، ولكنهم قد يتدربون عليها بمهارة.
أما العالم الثالث و الأخير، فهو الأرضية التي تستند عليها الطبقتين السابقتين. هنا يعيش أغلبية الشعب، أولئك الذين يكدحون ليلاً ونهارًا، ليس لخدمة أنفسهم، بل لخدمة العوالم الأخرى ويتسم هؤلاء بالخضوع والصمت الذي يكاد يكون ضربًا من الفن فهم يمدحون المسؤولين بلا سبب، ويحتفون بكل إنجاز وهمي، وكأن الكهرباء كثيرة الإنقطاع و باهظة الفاتورة هي كرم من الدولة، أو أن التعليم الذي يُنهكهم بلا عائد هو هدية من رجال الأعمال. في العالم الثالث يطأطئ الجميع رأسه أمام أي سلطة، سواء كانت موظفًا صغيرًا أم رئيسا.
عندما استيقظت، وجدت أن التقسيم الطبقي الذي رأيته في نومي ليس سوى الحقيقة التي نعيشها كل يوم. الفرق الوحيد هو أنني، في الحلم، كنت أجد متعة، أما في الواقع، فالأمر لا يثير إلا الحزن.
مع الأسف، هذا التقسيم الطبقي ليس مجرد حكاية أو فلسفة، إنه انعكاس صارخ لما يحدث في نواكشوط. طبقات تتكامل في خدمة بعضها البعض: الطبقة العلوية تستنزف الموارد وتُصدر القرارات في حين تنفذ الطبقة الإدارية الأوامر وتأخذ نصيبها، ويبقى الشعب بآلامه و أحزانه راكدا في صمت تام.
محمد محمود آبيه
[email protected]