كنت في إطلالة سابقة على مفردات النشيد الوطني قد كتبت عن مفردة "أجل" باعتبارها مفردة نادرة فذكرت استعمالاتها وتموضعها في الشاهد اللغوي ودرجة فصاحتها، غير أن مفردة أخرى أثارت فضولي وهي فعل"جاس"، فأردت في هذا المقال أن أقدم للقارئ بعضا من ما وقفت عليه من معان للفعل ضمن ما ذكرته المصادر، فهذه كلمة نادرة في اللغة العربية، استعملها مَنْ نظم النشيد الوطني، ليستجلب بعضا من معانيها القريبة الدالة على مضمون البيت المذكورة فيه.
ففي الآية 5 من سورة الإسراء، قال الله تعالى: "فَإِذَا جَاء وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَاعَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولا". في هذه الآية الكريمة ورد فعل"جاس" مسنودا إلى الجمع، فهذا أول ورود لهذه المادة، فجاءت كل الاستعمالات على الرغم من اختلافاتها منطلقة من الأصل المذكور.
وقد وردت في الشعر القديم، وغيره. ولهذه الكلمة عدة معان، ومنها أن بَعْضأَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِكَلاَمِ الْعَرَبِ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ يَقُولُ: مَعْنَى جَاسُوا: قُتِلُوا،وَيَسْتَشْهِدُ لِقَوْلِهِ ذَلِكَ بِبَيْتِ حَسَّان:
وَمِنَّا الَّذِي لاَقَى بِسَيْفِ مُحَمَّدٍ فَجَاسَ بِهِ الأَعْدَاءُ عُرْضَ الْعَسَاكِرِ
وشرحها بعضهم بقوله: أيْ طَافُوا وترددوا فِيهَا يَنْظُرُونَ هَلْ بقي أحد يقتلونه.ووردت بمعنى أنهم داروا فيها بالعيث والفساد.
وهذه المادة اسْتَعْمَلَها أُمَيَّةُ بنُ أَبي عائِذٍ الهذلي في السَّير فقال يَصِفُ حِمارًا
إذا ما انْتَحَيْنَ ذَنُوبَ الحِمارِ جاسَ خَسِيفٌ فَرِيغُ السٍّجالِ
كما استعملها الفقيه الزاهد ابن العسال من قصيدة فقال:
جاسوا خلال ديارهم فلهم بها في كل يوم غارة شعواء
وقال ابن عبد ربه:
حتى إذا جاسوا خلالَ دُورها وأسرع الخرابُ في مَعْمورها
وقال آخر:
حتى غزوت بهم قوماً مهاجرة في البر جاسوا خلال الحي من يمن
وقال ابن شهاب:
خليفة آباءٍ بعلياء بأسهم وباسمهم جاسوا البلاد ودوخوا
ومعظم الشعراء الذين استعملوها قرنوها بكلمة "خلال" كما وردت في التنزيل.
وفي كتب الأفعال وردت المادة دون تفصيل، ودون استشهاد عليها حيث قالوا: و"جاس" بين الديار جَوساً: مشى مفسداً.
ومهما يكن من أمر فإن هذا الفعل يعتبر من الأفعال النادرة الاستعمال، ولا يستعمله إلا المتقنون لمفردات اللغة العربية، واستعماله في النشيد الوطني هو دليل إيمان أهل هذا البلد بدستورهم العظيم، وما نزل به على رسوله صلى الله عليه وسلم من فصيح الكلام ونادر اللغة، إعجازا للعرب وما نطقوا به من كلامهم الذي لم يجدوا من يتحداه حتى نزل القرآن العظيم، فتيقنوا أن هناك من هو أبلغ منهم، فلم يبق لهم إلا الإذعان لهذا اللسان العربي الذي "لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيد".
ونختم هذا المقال بإثبات البيت الذي وردت فيه مادة "جاس" ضمن النشيد الوطني، حيث يقول:
نقاومه حيث جاس ومرا نرتل إن مع العسر يسرا
فعدو الوطن، يستحق أن يقاوم، ولا يترك في مكان، يزرع فيه قلة الأمن، فتركه يصول ويجول في أرجاء الوطن من شأنه أن يرمي البلد في بحر لجي من عدم الطمأنينة، وقلة السكينة، ويعيث في الأرض الفساد. فهذا البيت ناطق بحمولة ذات دلالة كبيرة في حقل مقاومة الأعداء بأصنافهم الكثيرة.