بموجب الدعوى التي رفعتها جنوب افريقيا اواخر ديسمبر الماضي امام المحكمة الجنائية الدولية ضد الكيان الصهيوني بارتكاب ابادة جماعية وجرائم حرب ضد الفلسطينيين في قطاع غزة اصدرت المحكمة التي تتخذ من مدينة لاهاي بهولندا مقراً لها الخميس 21 نوفمبر 2024 مذكرات اعتقال بحق مجرمي الحرب الصهاينة بنيامين نتنياهو ويواف غالانت وهذا التطور المهم يجعلهما رسمياً مطاردين ومطلوبين للقضاء الدولي ويلزم الدول الموقعة على ميثاق روما وعددها 124 دولة باعتقالهما وتسليمهما لمحاكمتهما على جرائم الحرب المنسوبة لهما بمجرد أن تطأ اقدام اي منهما ارض اي من هذه الدول او مياهها الاقليمية او اجواءها.
نتنياهو وغالانت متهمان بارتكاب عدة جرائم كالقتل والاضطهاد والقيام بأعمال غير انسانية وفقاً للمحكمة, وبهذه المذكرة يصبح نتنياهوالذي يمثل ايضاً امام المحاكم الصهيونية بعدة تهم كالرشوة وخيانة الامانة وغيرها, مطلوباً للقضاء خارج الكيان الصهيوني وداخله, مما يعني ان هناك مسقبلاً غامضاً ينتظره بعد انتهاء ما تبقى من فترته حكمه الحالية (حوالي عامين) هذا على افتراض انه استطاع ان يبقى في منصبه الحالي طوال هذه الفترة وهذا غير مرجح بحسب المعطيات السياسية الاقليمية والدولية والاحتجاجات الداخلية ضد سياساته وسلوك ائتلافه الحاكم الاشد تطرفاً في تاريخ الكيان الصهيوني, فضلاً عن تداعيات مذكرة الاعتقال الاخيرة التي اصدرتها بحقه الجنائية الدولية.
نتنياهو ليس اول زعيم صهيوني مطلوب للقضاء الدولي, فقد سبقه اسلافه في التيار اليميني المتشدد وابرزهم ارهابيان شهيران مطلوبان للقضاء البريطاني لارتكاب اعمال ارهابية هما مناحيم بيغن واسحق شامير واللذان اصبحا فيما بعد رئيسا للوزراء, وهذا التيار اليميني تاسس بالدرجة الاولى على اساس ايدولوجي استند على افكار احد ابرز منظرين الارهاب في القرن العشرينوهو الروسي (الاوكراني) سئ الذكر زئيف جابوتنسكي الذي يعتبر الاب الايدولوجي لحزب حيروت الذي اسسه مناحيم بيغن والذي اصبح اسمه فيما بعد حزب الليكود وهو (جابوتنسكي) مؤسس التيار اليميني الاكثر تشدداً في تاريخ الحركة الصهيونية وصاحب نظرية الجدار الحديدي التي تدعو الى "السيطرة على الاراضي العربية بسحق اهلها بكل قسوة وبدون رحمة وتدميرهم تدميراً تاماً", ونتنياهو يعتبر جابوتنسكي مرشده واستاذه وقدوته ويتأسى به منذ نشأته لاسيما انه كان هناك من نوع العلاقة بين جابوتنسكي ووالد نتنياهو بن صهيون ميليكوفسكي (وهذا اسمهم الحقيقي قبل تغييره الى نتنياهو بعد هجرتهم الى فلسطين من بولندا).
يعتبر الكاتب الامريكي زاك بوشامب أن تطبيق نتنياهو لرؤية جابوتنسكي واضح للغاية، سواء من ناحية تكثيف الاستيطان ورفض التنازل عن أي شبر من الأراضي في الضفة الغربية التي يراها أرضاً يهودية، أو من خلال سياسة التدمير الرهيب والقوة الساحقة وقتل الاطفال والنساء في قطاع غزة.
في هذا السياق يقول رئيس قسم الدراسات الإسرائيلية في جامعة سان فرانسيسكو، إرن كابلان "إن جابوتنسكي وبّخ الصهاينة الذين رأوا إمكانية التعايش مع العرب في فلسطين، فبالنسبة له فإن أي سكان أصليين عبر التاريخ لن يقبلوا أبدًا إحلال شعب آخر في وطنهم، وبالتالي لا بد من محاربتهم وسحقهم من أجل السيطرة على الأرض", ويرى كبلان ان نتنياهو يلتزم بذلك حرفياً بما في ذلك قتله الممنهج لاتفاقيات أوسلو، واعتبار عملية السلام مع العرب "نوعا من التسوية السلمية التي حذر منها جابوتنسكي لأنها تعني إظهارا للضعف الذي سيؤدي باليهود إلى الهلاك", ويضيف كابلان ان نتنياهو يعتبر أن الحل الوحيد ما ينادي به جابوتنسكي "وهو دولة يهودية قوية ترفض أي تنازلات، وتحدد التهديدات التي يواجهها الشعب اليهودي وتتصدى لها باستعراض ساحق للقوة".
من جهته يشير الباحث المجري المختص في التاريخ اليهودي لازلو بيرنات فيسبريمي في دراسة بعنوان "جابوتنسكي المنظر الفكري لسياسات الليكود" إلى أن من المفارقة أن نتنياهو يستغل اليمين الديني الذي أصبح مهيمنا في إسرائيل لتقوية حكمه واستمراره في السلطة، رغم أن الخلفية الفكرية لحزب الليكود صهيونية علمانية يمينية تعرف باسم "الصهيونية التصحيحية" أو التنقيحية، التي تأسست عام 1925 على يد اليهودي الروسي زئيف جابوتنسكي, والمقصود بالتصحيحية حسب فيسبريمي "هو انتهاج خط أكثر تشددا يوسع دائرة الخصوم والأعداء لتشمل البريطانيين الذين ساعدوا اليهود أصلا على خلق كيان لهم في فلسطين، إذ إن الصهيونية التصحيحية ترفض أن البريطانيين يقبلون أن يكون هناك نصيب للعرب سكان الأرض الأصليين في فلسطين", ويضيف هذا الباحث "فقد اعتبر أصحاب هذه الحركة -التي ولد الليكود من رحمها- بريطانيا عدوا لهم واستهدفوها بالانتقاد، بل إن العصابات المسلحة -التي شكلها قادة تلك الحركة خلال عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين لطرد الفلسطينيين من ديارهم- وسًعت من هجماتها لتشمل قوات الاحتلال البريطاني وحتى بعض قادة الصهيونية من الطرف الآخر اللذينقبلوا بتقسيم فلسطين، مثل حاييم أرلوزوروف الذي قتله اتباع جابوتنسكيعام 1933 وفقاً لفيسمبريمي الذي يؤكد أن أتباع جابوتنسكي انفسه كانوا يصفونه هو شخصياً بـ"موسوليني" في اشارة الى حليف اودلف هتلر الزعيم الايطالي الفاشي بينيتو موسوليني.
وفي ذات السياق يؤكد الباحث السياسي اليوناني يورغوس ميترالياس في مقال نشره يوم 31 أكتوبر 2023 بعنوان (عندما أطلق أينشتاين على أولئك الذين يحكمون إسرائيل منذ 44 عامًا لقب الفاشيين) يؤكد أن ما يقوم به زعماء اسرائيل اليوم ليس صدفةً او ارتجالاً اواختراعاً او وليد لحظته, وان نتنياهو هو نسل حقيقي للرحم "الفاشي" الذي أنجب مناحيم بيغن وإسحاق شاميروايريل شارون وغيرهم من اليمينيين المتطرفين، بل إن لديه علاقة مباشرة وحتى عائلية مع الأجنحة الفاشية الأكثر تطرفًا، التي ألهمها وأنشأها وقادها جابوتنسكي قبل قرن من الزمان, ويشدد الكاتب أن قادة الليكود بأفعالهم الشنيعة اليوم لا يأتون بشيء جديد، فجذورهم مغروسة في بيئة زئيفجابوتنسكي الاجرامية وفيها نشأوا وترعرعوا وتشربوا اقسى واعنف انواع الاجرام والارهاب والتي افرزت فيما بعد منظمات فاشية (بيتار وإرغون وشتيرن), وهذه ارتكبت مجازر مرعبة في حق الفلسطينيين والمسلمين وعملياتإرهابية ضد جنود بريطانيين، وموظفين أمميين، مثل اغتيال اللورد والتر موين وزير الدولة وممثل الحكومة البريطانية المقيم في القاهرة وذلك في 6 نوفمبر 1943، وكان إسحاق شامير أحد قادة عصابة شتيرن الثلاثة الذين أصدروا أمر اغتياله وكذلك قيامهم بإغتيال الوسيط الدولي الكونت السويدي فولكي برنادوت في القدس في السابع عشر من سبتمبر 1948.
كما يشير ميترالياس أنه من المفارقة أن جابوتنسكي تحالف مع قتلة اليهود مثل زعيم الحرب الأوكراني سيمون بيتليورا الذي نفذ جيشه حملات ضد اليهود, وبحسب ميترالياس تحالف جابوتنسكي ايضاً مع الزعيم الفاشي الإيطالي موسوليني الذي نقل عنه ميترالياس قوله عام 1935 موجها كلامه لديفيد براتو حاخام روما "إذا كنت تريد أن تنجح الصهيونية، فأنت بحاجة إلى دولة يهودية وعلم يهودي ولغة يهودية، والشخص الذي يصلح لذلك هو الفاشيتكجابوتنسكي".
وفي هذا السياق أورد ميترالياس نص رسالة نشرها العالم اليهودي البرتأينشتاين في صحيفة نيويورك تايمز في الثاني من ديسمبر/كانون الأول 1948 احتجاجا على زيارة مناحيم بيغن لأميركا، اعتبر فيها أن حزب "حيروت" والذي أنشأه بيغن والذي سُمِى لاحقاً حزب الليكود كما سبقت الاشارة, انه يشبه إلى حد كبير في تنظيمه وفلسفته السياسية الأحزاب النازية والفاشية، وقد تشكل من أتباع منظمة أرغون الإرهابية الشوفينية.
يشير الكاتب ميترالياس إلى أن نتنياهو وحكومته يبذلون اليوم قصارى جهدهم للتأكيد الكامل على ما قاله اينشتاين بالفعل وندد به علنًا عام 1948 من أن"مناحيم بيغن وشركاه في الليكود -الذين يُعد نتنياهو وريثهم الأيديولوجي- هم فاشيون عنصريون مجرمون وإرهابيون وسيقودون إسرائيل حتمًا إلى تدميرها النهائي".
ويلفت ميتراليس الانتباه الى أن هناك فرقاً مهماً بين الأمس واليوم بقوله "في ذلك الوقت كان جابوتنسكي وأهيمير وبيغن وشامير سيئي السمعة ومصنفون كارهابيين، وكانوا منبوذين ومطاردين والسياسيون في العالم يتجنبون مجرد رؤيتهم, أما اليوم فإن الوضع مختلف تماماً، إذ تحول "الفاشيون" و"الإرهابيون" سيئو السمعة بعد عام 1948 ليس فقط إلى حلفاء مقبولين، بل إلى شركاء إستراتيجيين يفرضون خياراتهم الاستبدادية على أغلب الحكومات والبلدان الغربية" على حد قول ميتراليس.
ويختتم ميترالياس مقاله قائلاً "أنه من المفارقة أيضا أن الحكومات الأوروبية والغربية الراهنة التي يقودها فاشيون يعرفون بعنصريتهم ومعاداتهم للسامية، هي من تساند المجرم نتنياهو وتدافع عنه بل قد تتهم كل من ينتقده بمعاداة السامية".
اخر الكلام:
مذكرة الاعتقال الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية بحق نتياهو تعني فعلياً المسمار الاخير في نعش حياته المهنية, والنفور منه دولياً وتآكل شبكة علاقاته الدولية, ودمغ كيانه بالاجرام كونه كان اداته في ارتكاب جرائمه التي اشارت اليها المحكمة الدولية, وتعني توجيه الاتهام للكثير من ضباط وجنود جيشه اللذين ارتكبوا هذه الجرائم التي امرهم بها, يعني وصم كيانه كله بالارهاب والجريمة, وكشف حقيقة هذا الكيان الذي يتقمص شخصية الضحية وفضح حقيقته انه كيان مجرم قاتل مما سيكون له تداعيات دولية كبيرة ابرزها تجنب الاقتراب منه والتعامل معه خوفاً من شبهة ارتكاب جرائم حرب وابادة جماعية,كما يمكن فرض مقاطعة وعقوبات على الكيان ووقف مبيعات الاسلحة اليه, كما سيكون الصهاينة مشبوهين موسومين بالاجرام وبالتالي غير مرحب بهم في معظم دول العالم مما سيجبرهم على اخفاء حقيقة هوياتهم مستقبلاً عند تواجدهم في اي مجتمع, فضلاً على ان الكثير منهم سيغادر هذا الكيان المجرم والحصول على هوية اخرى تجنباً لوصمة العار هذه.
قانونياً وسياسياً, تعني مذكرة إلقاء القبض على نتنياهو بمجرد مرورهبأراضي اي من الدول الاعضاء الموقعة على اتفاق روما او مياهها الاقليمية او اجواءها, حتي انه بمجرد مروره فوق اجواء اي من هذه الدول فلهذه الدولة الحق بإجبار الطائرة التي يستقلها على الهبوط بالقوة واعتقاله وتسليمه الى المحكمةوفقاً لخبراء قانونيين, وجل هذه الدول ان لم يكن كلها قد اعربت عن استعدادها للقيام بذلك بما في ذلك كل دول اوروبا تقريباً وفي مقدمتها الدول الرئيسية مثل بريطانيا وفرنسا والمانيا واسبانيا وايطاليا وهولندا وبلجيكا وفنلندا والسويد والنرويج وغيرها وهذا ما أكده جوزيف بوريل مفوض السياسة الخارجية والامن في الاتحاد الاوروبي الخميس تعليقاً على صدور مذكرات الاعتقال المشار اليهما قائلا "سنحترم قرارات المحكمة", مما يعكس بوضوح المشاعر الحقيقية لهذه الدول تجاه هذا المجرم وكيانه الشاذ والتي رأت في قرار المحكمة حجة وستاراً تتمترس خلفه للتهرب من الاملاءات الامريكية التي تجبرهم على تبني مواقف داعمة للصهاينة وكيانهم الغاصب لفلسطين دعماً غير مشروط.
نعم, ان الاوروبيين في الحقيقة لا يكنون مشاعر ودية للصهاينة في المجمل, ومازال ماثلاً للاعيان ما فعلوه بمن يعتبرونهم حثالة المجتمعات الاوروبية ابانالحرب العالمية الثانية منتصف القرن الماضي في حدث مازال ماثلاً للعيان ويعكس مشاعر الاوروبيين الحقيقية تجاه هؤلاء الحثالة وهوما تعكسه بوضوح مواقف البرلمانيين الاوروبيين التي تنضح بالبغض لتلك الحثالة التي لفظتها المجتمعات الاوروبية القرن الماضي لتبتلي بهم الشعب الفلسطيني وغيره من شعوب المنطقة.
هذا بغض النظر عن مواقف الانظمة الاوروبية الحالية المفتعلة والغير حقيقية (والتي لا تعكس اطلاقاً مواقف شعوبهم) والتي في الغالب هي املاءات امريكية.
في هذا السياق تجدر الاشارة الى ان العلاقات بين الولايات المتحدة ودول اوروبا لا تخضع لمنطق اتفاقيات العلاقات الدولية المعروفة بين دول طبيعية, ولكن هذه العلاقات عملياً تحكمها نوعين من الاتفاقيات الخاصة, الاول هو اتفاقيات الاستسلام التي اجبرت الولايات المتحدة دول المحور(المانيا والنمسا وايطاليا واليابان وغيرها) على توقيعها على اثر هزيمتها في الحرب العالمية الثانية امام دول الحلفاء بزعامة الولايات المتحدة والتي بموجبها تخضع هذه الدول المهزومة للسيطرة الامريكية الدائمة سياسياً واستراتيجياً, والثاني اتفاقيات اعادة بناء اوروبا بعد الحرب الثانية او اتفاقيات مشروع مارشال والتي تكبل الدول الاوروية المعنية بديون هائلة تقدر حالياً بما يقارب 300 مليار دولار للحكومة الامريكية التي اجبرت حينها هذه الدول على توقيع اتفاقيات المشروع والتي تتضمن شروطاً تفضي الى نوع من التبعية للولايات المتحدة منذ ذلك الحين والى ان يشاء الله.
د. سمير الددا