ظاهرة الرسوب الجماعي لطلبة الباكالوريا للعام الدراسي 2018 – 2019، شكلت صدمة للكثيرين في موريتانيا، وكعادة مثقفو موريتانيا انبري الجميع محللا وشارحا ومفصلا لحيثيات فنية، دون حتى الإلمام بأبجديات العمل التربوي والتعليمي ودون أدني مراعاة للتخصص، فأمر جلل كهذا في المجتمعات التي تحترم آدمية مواطنيها، والتي تحترم التخصص، يعتبر ناقوس خطر، يترك أمر معالجته لخبراء المجال دون تطفل. ولما يزيد علي عام كامل وأنا أقرأ عشرات المقالات أسبوعيا،يحاول أصحابها صادقين المساهمة في حل مشكلة النظام التعليمي المتردي في موريتانيا، ورغم هذا الكم الهائل من المقالات التي كنت أطالعها في المواقع الموريتانية حول التعليم في موريتانيا، التي يتسم معظمها بالضحالة والتسطيح، فقط قليل منها كتبها أساتذة جامعيين، كانوا موفقين في تشخيص أسباب التردي والتدهور المريع الذي يعاني منه قطاع التعليم والتربية في موريتانيا، لكن للأسف جانبهم الصواب في تقديم المعالجات المناسبة، لأنهم ظلوا أسري أساليب التخطيط الكلاسيكي التي تري أن المنهاج الدراسي هو حجر الزاوية في تطوير العملية التعليمية برمتها،تلك الأساليب التي تركها العالم وراء ظهره منذ ما يزيد علي ربع القرن! ورغم هذا الكم الكبير من المقالات التي تركز في معظمها علي الكم دون النوعية في تعاطيها مع ظاهرة تؤرق الكثير من دول العالم، لم أحاول طيلة هذه المدة أن أكتب حول الموضوع، لأسباب ثلاث :
1. إن تطوير وتحديث المنظومة التعليمية والتربوية في موريتانيا، يحتاج إلي وجود إرادة سياسية حقيقية، وهذا ما لم ألمسه رغم الجعجعة التي تصم الآذان حول التعهدات والإقلاع!
2. لا يمكن تطوير أي قطاع من قطاعات الدولة بمعزل عن بقية القطاعات ودون عملية تطوير وإصلاح شاملة لكافة القطاعات التي تتأثر سلبًا وإيجابًا ببعضهاالبعض.
3. تطوير قطاعات الدولة كافة تحتاج لمشروع مجتمع متكامل الأركان، وفق أساليب التخطيط الاستراتيجي التي أضحت ديدن المخططين العامين وصناع القرار وواضعي السياسات في عالمنا، مشروع مجتمع ذي آماد زمنية محددة بدقة، وهذا ما لم يتوفر بعد في موريتانيا، والتعهدات التي تم التطبيل لها والاحتفاء بها بشكل مبالغ فيه لا ترقي إلي مشروع سياسي انتخابي مرحلي أحري أن تكون مشروع مجتمع يراد منه نقل موريتانيا نقلة نوعية من حالة الجهل والفقر والمرض والتخلف إلي رحاب المدنية.
وظليت علي موقفي هذا حتى طالعت هذه الأيام العدد 001 من مجلة الشعب الشهرية الجديدة (الصادر في أغسطس 2020) بمناسبة مرور سنة علي تسلم السيد محمد ولد الشيخ الغزواني مقاليد الحكم في موريتانيا. صفحات المجلة 52 صفحة، خصص 80% منها (42 صفحة) للحديث عن قطاع التعليم، بعناوين جذابة وبراقة:
• المدرسة الجمهورية الجديدة في موريتانيا : فرص متكافئة وتعليم نوعي.
• إصلاحات كبري شهدها قطاع التهذيب.
• التعليم عن بعد كبديل عن حجرات الدراسة قفزة كبري إلي الأمام.
• إستراتيجية تطوير البحث العلمي في موريتانيا.
• موريتانيا اعتمدت المدارس المتخصصة بهدف تطوير جودة ونوعية التكوين وموائمة مخرجاته مع متطلبات سوق العمل.
• وزارة التعليم الأساسي اعتمدت ولأول مرة في تاريخ البلد بندا في ميزانيتها لتمويل الكفالات المدرسية.
• ترقية التعليم وتثقيف المواطن .
• الرؤية الإستشرافية لإصلاح التعليم الأساسي "تعهداتي"
• التعليم في موريتانيا : سلوك متجذر وواقع مزدهر ومستقبل مبشر.
مقالات كتب أغلبها خبراء التعليم في موريتانيا من أطر الوزارات الثلاث المعنية بالقطاع! :
1. وزارة الشؤون الإسلامية والتعليم الأصلي.
2. وزارة التهذيب الوطني والتكوين والإصلاح.
3. وزارة التعليم العالي والبحث العلمي وتقنيات الاتصال والإعلام.
بمجرد انتهائي من قراءة المجلة، أحسست بحزن عميق، لأننا في موريتانيا نتعاميونتجاهل عن قصد رؤية الحقيقة المجردة التي لا تجدي حيالها المكابرة، حقيقة مفادها أننا بلد من أكثر بلدان العالم تخلفا، بلد يعشعش فيه الفقر والجهل والمرض، إبتلاه الله بنخبة لا هم لها غير تلميع صورة الحاكم، وتزيين أفعاله، فجميع مقالات المجلة تجعلك تحس وكأنك تقرأ عن النظام التعليمي في سنغافورة أو كوريا الجنوبية أو فنلندا وليس عن موريتانيا التي:
• تمتلك أحد أكثر النظم التربوية تخلفا وتردي في العالم، وهي ضمن قائمة الدول الستة غير المصنفة وفق المؤشرات الثلاثة العالمية لتصنيف النظم التربوية والتعليمية في العالم.
• وفق بيانات الخزينة العامة في موريتانيا، تبلغ حصة الوزارات الثلاث المعنية بقطاع التعليم 6,784 مليار أوقية جديدة من الموازنة العامة لموريتانيا للعام 2020، أي 11,93% من الموازنة العامة،وهو ما يعادل 183 مليون دولار، وهي تضع موريتانيا في المرتبة 173 عالميا.
• تبلغ نسبة الأمية في موريتانيا 48% وهي الأعلى عربية، وتحتل موريتانيا المرتبة 11 في قائمة الدول الأكثر أمية في العالم، الدول العشرة التي تسبق موريتانيا كلها أفريقية باستثناء أفغانستان، وتضم القائمةكافة دول الساحل!
عليه قررت، وكواجب وطني أن أضع أمام صناع القرار في بلدي مخطط التطوير الشامل وفق أسلوب التخطيط الاستراتيجي أو ما بات يعرف بمخطط الجودة الشاملة لتطوير النظم التعليمية والتربوية في العالم، رغم يقيني أن ما سأكتبه سيلقي مصير سابقيه من مشاريع تحديث، كتبتها خلال السنوات القليلة الماضية، ومع ذلك لا خيار أمامي غير القيام بواجبي حيال الإشكاليات الوجودية التي يمر بها بلدي الغالي، فهذا هو دور النخب الثقافية عندما تدلهم الخطوب ويكون حاضر ومستقبل الوطن علي المحك.
*******************************
شكل مطلع الألفية (عام 2000)، نقطة تحول بارزة في مسيرة الشعوب والأمم في كافة أصقاع المعمورة، بل عده علماء وخبراء علوم الاجتماع والإناسة وعلم النفس السلوكي، منعطف تاريخي حاد، سيطبع بميسمه قادم الأيام ويحدد شكل الدول والشعوب لعقود قادمة.
هذا المنعطف التاريخي الحاد، جعل دول عالمنا تتمايز إلي ثلاث مجموعات رئيسة، تحتوي كل مجموعة علي تقسيمات فرعية داخلها، ذات طابع فني بالمقام الأول، هي :
• مجموعة الصدارة : وهي الدول التي استعدت جيدا لولوج المستقبل بثقة ، عبر التماهي الواعي والمدروس مع مكتسبات العصر، وتتسم هذه الدول بقدر عال من الاستقرار والسلم الأهلي والتصالح مع الذات التاريخية والوطنية، واستطاعت دول هذه المجوعة الوصول إلي دولة الرفاه المادي والمعنوي، عبر إصلاحات شاملة، طالت كافة البني والأنساق المجتمعية، وتضم هذه المجموعة 12 دولة هي: فنلندا –كوريا الجنوبية – هونغ كونغ – اليابان – سنغافورة – المملكة المتحدة – هولندا –نيوزيلندا – سويسرا – كندا – ماليزيا – رواندا. وتتقاطع هذه الدول في أنها :
1. تمتلك أفضل النظم التعليمية في العالم، ذات جودة أداء عالية ومخرجات مبهرة!
2. تتصدر مؤشر القوة الناعمة في العالم.
3. جميعها لا تمتلك موارد طبيعية(باستثناء كندا).
• مجموعة القاطرة : هي الدول التي تصنع الحدث وتأثر علي مجمل وقائع عالمنا، وتنقسم هذه المجموعة إلي فئتين هما:
1. دول ذات طموح إمبراطوري : وهي الدول التي تسعي إلي بسط نفوذها علي العالم عبر استخدام القوة الناعمة أو الخشنة، حسب المقتضيات، وتضم هذه المجوعة: الولايات المتحدة – روسيا الاتحادية – الصين الشعبية – فرنسا – الكيان الصهيوني – تركيا – إيران.
2. دول ذات سطوة وحضور عالمي: وهي الدول التي تملك اقتصاديات قوية، أو موارد طبيعية ضخمة، وتضم :ألمانيا – السويد – البرازيل – المكسيك –الهند – استراليا- النرويج – ايطاليا – جنوب إفريقيا - السعودية –الإمارات.
وتتقاطع دول مجموعة القاطرة في أنها :
1. باستثناء السويد والنرويج واستراليا ، تعاني بقية دول المجموعة من اختلالات بنيوية عميقة علي صعيد وحدتها الوطنية.
2. علاقاتها الخارجية ليست سوية، بحكم انخراط هذه الدول في مشاكل الدول الأخرى.
3. ضالعة في سباق التسلح، حيث يصل حجم إنفاقها العسكري إلي 80% من الإنفاق العالمي.
• مجموعة المسار : وهي تضم بقية دول العالم، وتنقسم هذه المجموعة إلي أربعة مجموعات فرعية أبرزها النمور الأسيوية والأسود الإفريقية التي تلملم شتات أمرها وتضع المخططات والتدابير التي من شأنها أن تنقلها في بحر عقود إلي مصاف الصدارة، وتقود هذه المجوعة كل من اندونيسيا وإثيوبيا.
قبل العام 2000، كان الرأي الشائع والاعتقاد السائد لدي المخطط العام وصناع القرار وواضعو السياسات أن المقومات الاقتصادية( وتحديدا الموارد الطبيعية) والصناعة وتوظيف البحث العلمي لتحسين جودة المنتج والقدرة التنافسية ، مع وجود توجهات سياسية رشيدة، في ظل الشفافية وسطوة القانون،والقضاء علي الفساد، هي الأسس اللازمة للتقدم وتحقيق المنعة وتوفير الرفاه، وظل معدل النمو السنوي مؤشرا للقياس، إلا أن مخرجات مجموعة الصدارة، قلبت النظريات العلمية رأسا علي عقب، حيث بات جليا وقناعة لدي المخططين العامين وأساطين التفكير الاستراتيجي وسدنة العلم أن النظام التعليمي والتربوي هو المدخل الصحيح لأي تقدم أو ترقي أو تحضر، وباتت النظم التعليمية كلمة السر، لنقل أي مجتمع من حافة الفقر والجهل والتخلف إلي مصاف الصدارة العالمية دون الحاجة إلي الموارد الطبيعية أو غيرها.
حتى مطلع الألفية( عام 2000)، كان المخططون العامون وصناع القرار في البلدان المتطورة، يدركون أهمية البحث العلمي في تطور المجتمعات وتقدمها، إلا أنه ومنذ عقدين من الزمن بات الأكاديميون, والمخططون مدركين لأهمية النظم التعليمية والتربوية في إحداث نقلة نوعية في المجتمع، وتحقيق جميع المستهدفات المجتمعية، أي أن كيف يكون شكل المجتمع يعتمد بالمقام الأول علي النظام التعليمي، ووضعت قواعد قياس صارمة وفعالة، لاستنباتوتجذير مفهوم التربية الشاملة، والتعلم مدي الحياة، حيث يبدأ من رياض الأطفال ويستمر علي امتداد العمر، ووفق هذا المفهوم، وضعت الخطوات الإجرائية لجعل العملية التعليمية، جزء لصيق بالحياة، كمفهوم تربوي شامل، يراد منه تحقيق المجتمع السوي بمستهدفات واضحة الملامح، مع القدرة علي الاستشراف وتقييم الحصاد وبشكل مرحلي، وتحول المفهوم عبر التجربة والمران المستمرين من عملية تعليم وفق نسق ابستمولوجي ثابت إلي عملية تعلم فعال يعمل علي صياغة وتشكيل وعي جماعي ايجابي، يحقق المستهدفات بشكل فعال عبر تماس المخرجات وانعكاسها علي واقع ومسار حياة الأفراد وهذا ما جعل الاستثمار في التعليم وفق أساليب التخطيط الاستراتيجي الفعال يشكل نقطة التحول الحضارية، التي عملت علي نقل دول متخلفة، تعاني الفقر والمرض والجهل وتعيش الحروب الأهلية ذات الطابع الإثني، مثل كوريا الجنوبية أو سنغافورة، إلي مصاف الصدارة في بحر عقود قليلة، بفضل تبني سياسات تربوية صارمة وجدية،طالت كافة مناحي الحياة في المجتمع، وشارك الجميع في توطيد أركانها وتوسيع قاعدتها، علي النحو الذي سنفصله في الفقرات القادمة من هذه الخطة التي يراد منها تحويل موريتانيا من دولة هامشية،تعيش علي حافة الهاوية بسبب الفقر والجهل والمرض، وتردي الأوضاع والاحتقان السياسي وتشظي الوحدة الوطنية إلي دولة الاستقرار ، و جعل موريتانيا في بحر عقد من الزمن تتحول من دولة متخلفة، تحمل كل بذور النزاع والصراع السيزيفي العبثي إلي دولة الاستقرار والرفاه، عبر عمل مأسسي وتأصيل معرفي دءوب، وفق مقاييس صارمة ومعايير جودة أداء عالية، من جهة ستعمل علي تغيير والي الأبد العقلية الموريتانية الارتكاسية ذات التكية القبلية، ومن جهة أخري ستعمل علي جعل موريتانيا في مقدمة الدول الإفريقية والعربية ذات المخرجات عالية الجودة والأداء علي كافة الصعد، دون استثناء، مما سيجعل من موريتانيا قصة نجاح استثنائية علي الصعيد العربي والإفريقي لا تقل أهمية عن تجربة رواندا ، بل نتصور أن المخرجات ستكون مبهرة وفق العديد من المؤشرات والمعطيات التي سنوضحها بشيء من التفصيل في ثنايا هذه الخطة.
بناء علي تجارب العديد من الشعوب التي كانت تعيش في أوضاع أسوأ من الوضع الموريتاني الراهن، علي تعقيداته وترديه، لكنها استطاعت الخروج من خانة الجهل والتخلف والتردي والاحتراب والاقتتال إلي رحاب المدنية والاستقرار والرفاه المادي، عبر الاستثمار في قطاع التربية والتعليم، وذلك من خلال تطوير نظامها التعليمي وفق أحدث المعايير والمقاييس، الأمر الذي لم يطور فقط تلك الدول، بل حولها من مؤخرة الركب إلي صدارة العالم في بحر عقود قليلة.
تجارب أكثر من ثلث دول العالم التي كانت قبل ثلاثة عقود تتخبط في مشاكل عويصة، وتعاني من كل تبعات وتداعيات التخلف من فقر وجهل ومرض وشح الموارد وقلة الإمكانيات، واحتراب داخلي علي فتات الموارد، مثل سنغافورة وكوريا الجنوبية ورواندا وماليزيا ، وغيرها، والتي تحولت إلي فواعل حضارية بفضل تطوير نظمها التعليمية، التي كانت بمثابة القاطرة التي قادت كل القطاعات إلي التطور، فجودة التعليم تعني جودة الصناعة وارتفاع القدرة التنافسية وجودة الزراعة والوصول إلي أقصي إنتاجية، فضلا علي أن جودة التعليم تفضي إلي اقتصاد معرفي وارتفاع الأداء بشكل مفرط مما يعني عائدات تراكمية كالمتوالية الهندسية، باختصار جودة التعليم تسحب بظلالها علي كافة القطاعات. انطلاقا من هذا فإننا نضع مخطط لتطوير النظام التعليمي والتربوي في موريتانيا وفق معايير الجودة الشاملة وبما يتناسب مع البيئة الموريتانية، ليكون بمثابة وثبة حضارية تودع فيها موريتانيا التخلف والي الأبد، أسوة بالدول التي بدأت من الصفر، لإنه بإمكان موريتانيا أن تحقق في عقد من الزمن ما حققته تلك الدول في ربع قرن، ولأنه لدي موريتانيا موارد مهدرة يمكن أن تنفق بها علي مخطط التطوير الشامل، دون الحاجة إلي اللجوء إلي صناديق الاقتراض الدولية، هذا شريطة توفر الإرادة السياسية والجدية والعزيمة ومشاركة الجميع في إنجاح المستهدفات الإستراتيجية، التي نروم والتي تتلخص في ثلاث مخرجات رئيسة في آماد زمنية محددة بدقة، هي:
1. أن تدخل موريتانيا قائمة الخمسين دولة من حيث جودة النظام التعليمي مع مطلع العام 2030.
2. أن يكون الناتج الإجمالي المحلي لموريتانيا من العائدات غير المعدنية في مختلف القطاعات في حدود نصف تريليون(500 مليار دولار أمريكي)، بفضل جودة التعليم، مع مطلع العام 2030.
3. أن تدخل موريتانيا القائمة الذهبية للدول العشرة ذات الجودة العالية والرفيعة للنظام التعليمي بحلول العام 2050، كأول دولة عربية وإفريقية.
الأمر ليس حلما ولا شطحات خيال، بل هو توظيف معرفي واعي لمكامن المنعة والقوة في بنية الاقتصاد الموريتاني، وإدراك لأهمية العلم ، واستلهاما لتجارب شعوب عديدة، حققت الحلم ووثبت بشكل مبهر إلي الصدارة.
ولله الأمر من قبل وبعد،،،
يتبع بإذن الله تعالي.
د.الحسين الشيخ العلوي
09 صفر 1442، الموافق 26 سبتمبر 2020 / تونس