لا أحبُّ تناولَ المسألة الفئوية في أي من أبعادها، العرقية والشرائحية والقبلية والجهوية، باعتبار أن تكرارَ الطَّرْق عليها يولِّد نوعاً من التطبيع الشعوري واللا الشعوري مع عملية تصنيع الصور النمطية المتبادلة داخل المجتمع الواحد. وقد كتبتُ هنا ذات مرة أن أحد أكثر أنواع النضال عقماً هو النضال الشرائحي، وذلك ببساطة لأنه نضال لا طائل من ورائه؛ كونُه يخطئ الطريقَ الصحيحَ جاعلا هدفَه المباشر وضعَ شريحة معينة على مستوى واحد، اقتصادي واجتماعي وسياسي، مع شريحة أخرى بعينها، وجاعلا همَّه الأساسي إزالةَ العرَض، متجاهلا علاجَ السبب متمثلا في غياب دولة العدل والتنمية التي بوجودها تتحقق ضماناتُ الحياة الكريمة للجميع، أفراداً وجماعات.
ومع ذلك فقد قلتُ في أحاديث وتعليقات حول ذلك القلق المبالغ فيه، والذي أثارته جزئياً بعض الخطابات الحادة والمتشنجة لبيرام ولد الداه اعبيد، وبينتُ أنها في الأساس خطابات الحملة الانتخابية، وكثير من الساسة يقولون في أجواء الحملة كلاماً قلَّما ألزموا أنفسَهم به بعد انتهائها.
كما أنها خطابات يستهدف بها بيرام استمالةَ كتلة ناخبة كبيرة ومهمة للغاية، وقد اختار أن يعزف على أسماعها وترَ المظلومية التاريخية بغية ضمان كسبها والحصول على أصواتها، وهذا سلوك انتخابي مألوف حتى في الديمقراطيات العريقة.
وأهم مِن هذا وذاك أن التشنج والحدة في الخطاب الموجه من نخبة لحراطين على العموم، لاسيما بشأن العلاقة مع البيظان، كما علَّمتنا تجربةُ العقود الماضية، تشنجٌ وحدةٌ لا يلبثا أن يتحولا إلى هدوء وخفوت. ويحدث ذلك حين يرتقي المستوى المادي للزعيم الحرطاني النخبوي ويصبح أحدَ أفراد النخبة البرجوازية البيظانية، فتتشابك مصالحُه مع مصالحها، ويبدأ السعيَ للحفاظ على امتيازاته المادية ومحاولة تعظيمها.
ويمكننا أن نقدم الكثيرَ من الأمثلة والنماذج لهذا التحول في خطابات ومواقف الزعامات الحرطانية، وانتقالها من الخصام والحدية والصدام إلى الوئام والتعايش والانسجام.
في ثمانينيات القرن الماضي خاض بيجل ولد هميد صراعاً مريراً ضد الناصريين والبعثيين على رئاسة اتحاد العمال الموريتاني، وقد وظَّف البعدَ الشرائحي في مخاطبته فئاتٍ عماليةً واسعةً، لاسيما عمال الشركات العمومية وحمالي ميناء نواكشوط. ولم يكن خطابه في تلك السنوات أقل حدةً على الإطلاق من خطاب بيرام في وقتنا الحالي.
لكن لم يلبث بيجل أن أصبح واحداً من نخبة المناصب والمال والأعمال وصار وجيهاً اجتماعياً وأحدَ مَن يُطلق عليهم إعلامياً «رموز الفساد»، فتغير خطابُه بالكامل وتبدلت مواقفُه كلياً.
والشيءُ ذاته حصل مع مسعود ولد بلخير، وإن كان على مرحلتين، فقد كان هو أيضاً أحد الزعماء المؤسسين لحركة «الحر»، لكن بعد تعيينه حاكماً ثم والياً أقلع عن خطابها، ثم قطع معها كل خطوط الاتصال عقب تعيينه وزيراً للتنمية الريفية في السنوات الأولى من عهد الرئيس معاوية ولد الطايع. بيد أن الطريقة التي أبعده بها معاوية من الوزارة، إثر ما قيل عن فساد كبير في تسييره إياها (وكان ذلك قبل أن ينتهج معاوية سياستَه المتسامحة جداً مع الفساد)، دفعته إلى مواجهة مرشح السلطة لبلدية نواكشوط مستنجداً بـ«الحر» ومستعيداً الخطاب الشرائحي بكل مفرداته وحمولاته.
وقد حضرتُ شخصياً مهرجانين لمسعود في نواكشوط، أحدهما في عام 1994 وثانيهما في عام 1997، كان خطابه في كل منهما عنيفاً وشديدَ الحدة حيال البيظان. لكنه بدأ يغير نبرةَ خطابه بعد أن تلقفه الناصريون واحتضنوه إثر حل حزبه («العمل من أجل التغيير»). ثم تغير جذرياً بعد صفقة الشوط الثاني في الانتخابات الرئاسية عام 2007، وما تم تسييله من أموال (موريتانية وليبية) لتسليكها، بالإضافة إلى رئاسة الجمعية الوطنية، ومن بعدها رئاسة المجلس الاجتماعي والاقتصادي.
ورغم المناورات التي لجأ إليها مسعود في الأشهر الأخيرة، فإنه لم يلبث أن انخرطَ بسرعة في الحملة الانتخابية للمرشح محمد ولد الشيخ الغزواني، وفي ذهنه -بكل تأكيد – مصالح وامتيازات يريد الحفاظَ عليها والدفاع عنها، لكن بأسلحة ناعمة تناسب وضعه المادي المميز.
إن للمصالح المادية قدرةٌ عجيبة على فعل الأفاعيل بالساسة والمثقفين ورموز النخبة من جميع الانتماءات، السياسية والاجتماعية والفكرية، ولا يقتصر الأمر على نخبة لحراطين وحدها، بل ينطبق أكثر منهم على نخبة البيظان التي قلبت مواقفَها رأساً على عقب وباعت كلَّ شيء في حياتها، مقابل مناصب وامتيازات ومصالح.
وعلى ضوء ذلك لا تستغربوا إن جلس أمامكم بيرام ولد الداه، وقد أصبح جزءاً من شبكة المصالح ونخبتها السياسية والإدارية والمالية، ليخاطبكم كما يخاطبكم الآن مسعود أو بيجل حول مجتمع البيظان الواحد (بيظ وخظر)، واعظاً وموجهاً الدروسَ حول أهمية الحفاظ على سلامة العمود الفقري للوطن متمثلا في البيظان (بياض العين وسوادها)!
وإذا كان الخطاب الشرائحي، بحامليه ومحمولاته ومراحله المختلفة، خطاباً عقيماً وخطيراً، فثمة خطاب شرائحي مضاد طفى على السطح في إطار الهجمة الأخيرة ضد بيرام، لا يقل عنه خطورةً، وإن توشح بالحرص على الأمن العام والوحدة الوطنية، محاولا إخفاءَ أغراضه التزلفية. والاثنان يصدران من مشكاة واحدة، ألا وهي غياب الحكامة الرشيدة كمدخل ضروري لدولة العدل والتنمية! لذا ففي بيئة كهذه، لا يُعقل أن يكون التحول في خطاب ومواقف بيرام مفاجئاً لأحد!